تستقطب مهنة العتالة التي اختص بها الرجال (الحمالين) عبر التاريخ عدداً كبيراً من السوريات اللاتي ضاق بهنَّ الحال في سنوات الحرب الطويلة، واضطررن إلى العمل في المهنة الشاقة مع مغادرة الشبان البلاد بحثاً عن مستقبل أفضل في دول اللجوء الكثيرة.
وتسببت حرب أهلية طاحنة أعقبت احتجاجات على حكم الرئيس السوري بشار الأسد منذ مطلع 2011، في دمار للاقتصاد والبنية التحتية، وانهيار منظومات الصحة والتعليم، ولجوء ملايين السوريين إلى دول الجوار وعدد من الدول الأوروبية في موجات هجرة مستمرة، سيما للشبان الفارين من التجنيد الإجباري.
ويصور تقرير تلفزيوني، فاز مؤخراً بجائزة إعلامية لأفضل التقارير المصورة، كثير من الشابات السوريات اللاتي لم يسبق لهنّ العمل بتاتاً، وعشنَّ حياة مدللة إلى حد ما، ووجدن أنفسهنَ مرغمات على العمل في مهنة العتالة التي تكاد تكون الوحيدة التي تقبل بهنَّ بسبب قلة فرص العمل.
ويحكي التقرير الذي تم تصويره، في مدينة القامشلي شمال شرق سوريا الغني بالنفط والثروات المائية والزراعية والبشرية، كيف تضطر نساء إلى حمل أوزان ثقيلة قد تفوق أوزان الفتيات أنفسهنَ في أحد المظاهر المؤثرة للحرب المدمرة.
تقول إحدى الشابات في التقرير، إنها مضطرة للعمل في العتالة لتأمين أي مبلغ يؤمن جزء من احتياجات أسرتها على الرغم من الأجور القليلة التي تتقاضاها العتالات (نحو 1.5 دولار في اليوم)، بينما تتحدث الفتاة بحسرة على مغادرة إخوتها الشباب للبلاد وتتمنى عودتهم.
فاز التقرير بجائزة قدمتها إذاعة روزنة السورية التي تبث من خارج البلاد مثل كثير من وسائل الإعلام السورية التي ظهرت في سنوات الحرب، وقال القائمون على المسابقة إنه يصور الحقيقة المؤلمة لحياة النساء.
ويقول ريمون القس، الصحفي السوري الذي أعد التقرير وعمل مدة 11 عاماً (2009 – 2020) محرراً في موقع أريبيان بزنس، إن غالبية العاملات في العتالة، وأعدادهن بالآلاف، يخفين وجوههن خجلاً من المهنة التي يعملن بها، حيث لم يعتد السوريون مشاهدة النساء يعملن في هذه المهنة الشاقة رغم عمل النساء الشاق في الأرياف السورية الواسعة.
هجرة شبان غير مسبوقة
تسبب التجنيد الإجباري في هجرة غير مسبوقة للشبان، وهو ما دفع النساء والفتيات إلى ملء جزء من الفراغ الذي أحدثته تلك الهجرة، ودخولهن إلى سوق العمل بشكل مشوه.
قالت نور، وهي فتاة قاصر أخفت وجهها الجميل عن الكاميرا، إنه “من المفترض أن أكون حالياً مع قريناتي في المدرسة في الثاني ثانوي، ولكني أصبحت مرغمة على العمل وإعالة أسرتي المكونة من والدين وشقيقتين أنا أكبرهما وشابين هربا من التجنيد الإجباري في منطقتي التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية بعد أن تجاوز عمرهما 18 عاماً باتجاه الأراضي التركية على أمل الوصول بعدها إلى ألمانيا”.
توضح نور، التي غادرت مقاعد الدراسة وأصبحت تعمل في مهنة تحميل وتفريغ البضائع في إحدى ورشات المنطقة الصناعية في القامشلي، أن “دخل والدها لم يعد كافياً لإعالة أسرتها، وأصبحت النساء تعملن حتى في أعمال الرجال بسبب غياب الشباب، أينما ذهبت فلن تجد سوى نساء وفتيات يعملن حتى كبيرات السن منهن”.
وأضافت إن “التحميل والعتالة مهنة مضنية، ولكننا مضطرات على ممارستها لنستطيع العيش، فخياراتنا محدودة جداً، وإن لم نعمل سنموت جوعاً”.
بين نارين
باستثناء الشبان الوحيدين والمؤجلين دراسياً وبعض الحالات الصحية، يواجه كل فتى اقترب عمره من 18 عاماً في المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا، معضلة إجباره على الخدمة العسكرية الإلزامية، وما يترتب عليها من مخاطر قد تودي بحياته قبل انتهائها.
يلجأ بعضهم إلى الخيار الثاني، لينخرطوا بالخدمة الإلزامية في الجيش السوري في حال سلم نفسه طوعاً أو في حال سفره إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية في مهمة عسكرية قد تطول لأعوام، فلا يعرف متى تنتهي، وقد يلقى حتفه قبل أن تنتهي خدمته مفتوحة الزمن.
وبالإضافة إلى ما يعانيه معظم السوريين من أوضاع اقتصادية سيئة جداً، وبشكل خاص في العامين الأخيرين، بعد الهبوط الحاد لليرة السورية واشتداد وطأة العقوبات الأممية على سوريا وتضاعف الفساد، قرر مئات الآلاف من الشباب الهروب باتجاه الأراضي التركية ومعظمهم أكملوا رحلتهم غير الشرعية إلى دول أوروبا الغربية ومعرضين أنفسهم لمخاطر كثيرة قد تكلفهم حياتهم.
وقالت نور، التي أصبحت معيلة لأسرتها إلى جانب والدها ووالدتها لشقيقتيها الأصغر منها، إنها تتمنى انتهاء الحرب الآن وعودة شقيقيها من رحلة الهجرة إلى القامشلي، وتمنت أيضاً العودة إلى مدرستها وصديقاتها وأن تعيش حياة أفضل من حياتها الحالية.
استغلال
وفي القامشلي، التي أصبحت في الأعوام الأخيرة، عاصمة اقتصادية وتجارية لمناطق سيطرة الإدارة الذاتية، كونها مطلة على الحدود التركية وقريبة من الحدود العراقية وإقليم كردستان العراق شبه المستقل، ونسبياً من الأراضي الإيرانية، أصبح التجار يستعينون بورشات عتالة مؤلفة من عشرات النساء والفتيات، وكثير منهن قاصرات.
يتضمن العمل تحميل بضائعاً متنوعة وتفريغها؛ نظراً لقلة أعداد الشبان، فضلاً عن انخفاض أجورهن بشكل كبير، مقارنة مع العمال الشباب شبه النادرين.
وقال جوان حمزة، أحد أكبر تجار المواد الاستهلاكية في القامشلي ويستعين بين الحين والآخر بورشات عتالة نسائية، إنه “نتيجة لأوضاع البلاد الحالية وظروفها الصعبة، انعدمت اليد العاملة من الذكور، وكان البديل الوحيد الموجود هو اليد العاملة النسائية بسبب عوامل عدة؛ منها الفقر والحروب والتشرد“.
وأضاف “دفعت الظروف الصعبة النساء والفتيات إلى العمل في هذه المهن بعد أن أصبحن المعيل لعائلاتهن.”
وبسبب مشكلات العمل الصعبة التي تعاني منها السيدات والفتيات وظروف استغلالهن التي قد تصل إلى حد الاستغلال الجنسي، بات معظم التجار لا يرحبون بتصوير العاملات في العتالة ومنع الصحافيين من الحديث معهن، بل وصل الأمر بأحد أولئك التجار إلى طرد معد التقرير والاعتداء عليه لفظياً.