يتبرع مغتربون سوريون وسكان محليون كثر، ضمن حملات “فزعة“، بمئات آلاف الدولارات لصالح مدنهم وقراهم وخاصة في محافظة درعا جنوب سوريا التي معظم مغتربيها يقيمون في دول الخليج العربية وذلك بعد وصول الفقر في سوريا إلى مستويات غير مسبوقة وتقطع سبل العيش داخل بلدهم الذي يعاني حرباً منذ مطلع العام 2011.
وتدعم الحكومة السورية مثل هذه الحملات لأنها تخفف من السخط الشعبي المتزايد عليها نظراً للأوضاع الاقتصادية السيئة لمعظم المواطنين في بلدهم التي أنهكتها الحرب منذ 12 سنة.
ومنذ منتصف 2022 لاحت في سوريا أزمة اقتصادية غير مسبوقة، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، إذ تدهور سعر صرف الليرة إلى مستويات قياسية، وساد مشهدٌ من الشلل والعجر، بعدما نفذ مخزون الحكومة من المحروقات، مما انعكس على عمل مؤسساتها من جهة، وأسفر عن تقطع سبل كثير المواطنين والموظفين باحثين عن وسيلة نقل تقلهم إلى الوظيفة، ومن ثم تعود بهم إلى المنزل، بالإضافة إلى ارتفاع غير مسبوق وغير منطقي بأسعار جميع السلع والخدمات.
وعلى الرغم من أن الأزمات الاقتصادية لم تفارق السوريين على مدى “سنوات الحرب السوداء والطويلة”، إلا أن الظلال التي تلقي بها الأزمة الحالية لم يسبق أن خيمت بهذه التداعيات على المواطنين، لاسيما مع حالة العجز التي تعيشها الحكومة التي بدأت تفقد ما تبقى من حاضنتها الشعبية إذ باتت في موقف لا يمكنها فيه تقديم حل لأي مشكلة من المشكلات الكثيرة التي تواجه المواطنين بسبب الفساد المتغول في جميع مفاصلها.
وينتشر الفساد في سوريا منذ قبل بدء الحرب السورية في 2011 وبحسب سياسيين، فإن الفساد هو أحد الأسباب التي عمقت الأزمة السورية، وتضاعفت نسبة الفساد مع استمرار الحرب التي دفعت بملايين السوريين إلى النزوح واللجوء خارج مدنهم وبلدهم، في حين جعلت الغالبية العظمى منهم دون خط الفقر.
أولى الحملات
انطلقت أولى الحملات وأكثرها في مدن وبلدات محافظة درعا (حوران) المحاذية للحدود الأردنية والقريبة من الحدود السعودية، ومعظم مغتربيها يقيمون، قبل بدء الحرب، في دول الخليج العربية وخاصة المملكة العربية السعودية والكويت، وجمعت تلك الحملات مبالغ مالية تقدر بعشرات مليارات الليرات السورية (مئات ملايين الدولارات).
واستطاعت بلدة الكرك الشرقي، بحسب الوكالة العربية السورية للأنباء الرسمية (سانا)، جمع ملياري ليرة سورية (نحو 300 ألف دولار)، وكذلك بلدة الغارية وداعل تمكن سكانها من جمع 1.7 مليار ليرة (260 ألف دولار)، بينما جمع أهالي مدن أبطع والشيخ مسكين مليار ليرة سورية لكل منهما (153 ألف دولار).
وتدعم وسائل الإعلام الرسمية هذه الحملات ووصفتها بالتفاف الحاضنة الشعبية حول مؤسسات الدولة، وهو ما دفع الشارع الحوراني إلى انقسام بين مؤيد لحملات التبرع المخصصة لترميم المرافق العامة وبين معارض لها على أساس أنها “تخفف العبء عن كاهل النظام، وتوفر على خزينته صرف الأموال اللازمة لصيانة المرافق”.
وقالت وكالة سانا في تقرير نشرته يوم الخميس الماضي إن محافظة درعا تستمر في المبادرات الأهلية والمجتمعية لدعم قطاع المياه، والتي بدأت من ريفها الشمالي الأوسط في داعل والشيخ مسكين وإبطع، وتستكمل مسيرتها في كل أرياف المحافظة بهدف تأمين المياه لأكبر عدد من التجمعات السكانية.
ونقل التقرير عن رئيس مجلس مدينة الكرك الشرقي وائل الظاهر إن لجنة التبرعات جمعت نحو مليارين و20 مليون ليرة سورية، لتشغيل آبار مياه الشرب بالطاقة البديلة وصيانة شبكة المياه وتركيب طاقة شمسية لصالح المركز الصحي في المدينة، لافتاً إلى أن الحملة لاقت تجاوباً كبيراً من السكان والمغتربين.
وفي بلدة الغارية الغربية، قال رئيس البلدية عادل الشيباني إن الأهالي توافدوا إلى لجنة التبرع، بهدف تأمين الأموال اللازمة لإعادة تشغيل محطات الضخ الخاصة بالآبار المغذية للبلدة، مشيراً إلى أنه تم حتى الآن جمع نحو مليار ليرة.
وذكرت مؤسسة مياه الشرب في درعا أن تجربة المجتمع المحلي في المحافظة بتقديم التبرعات المالية والعينية لصالح مشاريع المياه، التي تعرضت للضرر الكبير خلال السنوات الماضية جراء الإرهاب هي تجربة رائدة، حيث قدم المجتمع المحلي في عدد كبير من قرى المحافظة مليارات الليرات.
وقال معاون مدير المؤسسة المهندس أسامة القادري إنهم تمكنوا من إعادة تشغيل 92 بئراً بالطاقة البديلة، منها 30 بئراً بالتعاون مع المجتمع المحلي و62 بئراً بالتعاون مع المنظمات الدولية، موضحاً أن المؤسسة أجرت الصيانة اللازمة لمحطات الضخ الخاصة بالآبار.
وبدأت عشرات البلدات تسير على خطى داعل وأبطع والشيخ مسكين والكرك والغارية، بهدف تأمين تشغيل محطات ضخ المياه بالطاقة البديلة.
وشهدت بعض مناطق محافظة حمص مبادرات “أهلية” من هذا النوع لكن بدرجة أقل انتشاراً وأقل تمويلاً من مناطق حوران.
السوريون يتناقلون صور المليارات
امتلأت صفحات الفيسبوك؛ حيث ينشط السوريون، بصور تظهر أهالي من مدن وبلدات محافظة درعا وأمامهم أكوام من مليارات الليرات السورية التي تم التبرع بها من قبل المغتربين المحليين باسم حملات تحمل اسم “فزعة النشامى” و”فزعة حوران” وغيرها، ولتلقى هذه الحملات استحساناً واسعاً من قبل المتابعين في الداخل السوري لأنها ربما تكون “بارقة أمل” تفرج كربتهم، في حين قلة هم الذين علقوا سلباً عليها أو يبدو أن الرافضين لهذه الفكرة اختاروا عدم التعليق نهائياً.
وقال أحد سكان درعا لأريبيان بزنس، وطلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، إنه يعارض هذه الحملات أو الفزعات كما يسميها أهالي درعا لأنه “يعرف سلفاً أن جزءاً كبيراً منها سيبتلعه فساد المسؤولين”، وقال “مشكلتنا نحن السوريين هي الفساد الذي أوصلنا إلى هذا الحال.. الأزمة السورية كانت كأس وكنا سنتجرع ما فيه لأن ذلك كان مكتوباً ومخططاً ومعداً من قبل، ولكن لولا الفساد لما تعمقت الأزمة بهذه الحدة ولم نكن سنصل إلى ما وصلنا إليه من تهجير لملايين السوريين وإفقار الملايين والضحايا بمئات الألوف، ولولا الفساد أيضاً، لكانت الأزمة السورية انتهت كما انتهت في باقي الدول العربية”.
وقال الصحافي عصام حوج لأريبيان بزنس “يمكن لمثل هذه المبادرات الأهلية ان تحل جزءاً يسيراً من المشكلة، وعلى الصعيد المحلي حصراً.. فالمشكلة في الاقتصاد السوري بنيوية تاريخية وراهنة، لأن جزءاً أساسياً من هذه المشكلة يعود أصلاً إلى ما قبل الأزمة وتحديداً إلى السياسات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومة السورية أو ما أطلق عليه اسم اقتصاد السوق الاحتكاري؛ وهو الاسم الحركي لظاهرة الفساد، وبمثابة قوننة لها”.
وأضاف أن “الفساد كان يقتطع ما يقارب الـ 40 بالمئة من الدخل الوطني في العام 2010، ناهيك عن سياسات البنك المركزي السوري التي أدت الى انهيار قيمة الليرة السورية بالتواتر منذ تفجر الأزمة في 2011، بالإضافة إلى تدمير واسع للبنى التحتية، وانقطاع التواصل المباشر والطبيعي بين المناطق السورية، وتوقف الإنتاج بشكل شبه كامل، وأحياناً وكامل في العديد من قطاعات الاقتصاد الحقيقي، لتأتي العقوبات الدولية فيما بعد، التي اضرت بكل السوريين باستثناء أمراء الحرب في مختلف الأطراف، فاكتملت بذلك دائرة الأزمة الاقتصادية الخانقة الراهنة، بمعنى آخر لا حل اقتصادي للأزمة الاقتصادية إلا من خلال حل سياسي للأزمة السورية ككل على أساس القرار الأممي 2254”.
