تعد البيروقراطية التجارية مشكلة قديمة تواجهها معظم المؤسسات الكبيرة. يتساءل تيرنس موري، مؤلف كتاب Thinkers50 ومؤسس Hack Future Lab: “هل نبذل جهوداً كافية للحد من البيروقراطية المفرطة التي تثقل كاهل القيادة وتعيق التعلم والابتكار؟”
يغرق الكثير من القادة في “البيروقراطية المفرطة”، والتي تشمل القوانين الكثيرة، والإجراءات المتكررة، والاجتماعات غير الضرورية، و”أفضل الممارسات” التي تحولت إلى “ممارسات معطلة”، والسلوكيات المنعزلة التي تبطئ اتخاذ القرارات وتضر بجهود الابتكار في نهاية المطاف. ومن المفارقات الساخرة في عصرنا أن التكنولوجيا تتطور بسرعة، بينما يتغير البشر ببطء شديد. يعاني القادة من فجوة في الفهم، حيث تفوق البيروقراطية المفرطة قدرة عقولنا على استيعابها، مما يؤدي إلى غباء هيكلي في مؤسساتنا ومكافآت لمن يبنون أنظمة بيروقراطية.
لنأخذ مثالاً على ذلك في تخصيص الموارد: الميزانيات، والنفقات التشغيلية، والنفقات الرأسمالية، وميزانيات المبيعات والتسويق. نجد أن تخصيص نفس الموارد لنفس المديرين التنفيذيين عاماً تلو الآخر أمر شائع للغاية، لأن البيروقراطية لزجة كالصمغ، وهناك جمود في النظام.

يتم استهلاك أربعة مليارات ورقة يومياً، وقد تضخم قانون الضرائب الأمريكي من 400 ألف كلمة إلى 4 ملايين كلمة خلال العشرين عامًا الماضية. وفي سان فرانسيسكو، تطلق البلدية مبادرة جديدة لتسريع عملية توظيف موظفي المدينة، والتي تستغرق حاليًا 255 يوماً في المتوسط. نقترب أكثر من “القيادة الميتة”، أي القيادة بأفكار بالية، كلما نسينا تجديد أساليبنا القديمة، سواء من خلال حضور اجتماعات عديمة الفائدة أو التمسك بقواعد أصبحت بديلاً عن طريقة عملنا الفعلية.
فهل نحن من نخدم البيروقراطية، أم أنها من تخدمنا؟ نجد أنفسنا نركز على تنفيذ الإجراءات البيروقراطية بدقة بدلاً من التركيز على النتائج. يجب أن يكون دور القادة حماية ما يخلق القيمة ويخدم الهدف، وليس الحفاظ على البيروقراطية نفسها. ستستفيد كل مؤسسة من إجراء تمرين “ماري كوندو” نصف سنوي، نسبة إلى نجمة Netflix الشهيرة المتخصصة في تنظيم وترتيب المنازل الفوضوية. يحتاج جميع الموظفين إلى تحمل مسؤولية تبسيط العمليات والتخلص مما يسميه غاري هاميل وميشيل زانيني، مؤلفا كتاب “البيروقراطية البشرية” (Humanocracy)، بـ “مؤشر الكتلة البيروقراطية”.
نظرًا للتكلفة الباهظة التي يدفعها البشر من حيث ضياع الوقت والذكاء في أداء مهام غير مجدية، حان الوقت للقادة لإعطاء الأولوية للعمل الذكي على العمل البيروقراطي.
لم يعد النجاح في المستقبل يعتمد فقط على الحجم والكفاءة. بل أصبح يتعلق بالعائد على الذكاء – وهو ثقافة يقودها البشر مدعومين بالذكاء الاصطناعي، حيث يتم تمكين الأفراد من حل المشكلات والمساهمة في صنع المستقبل؛ إنه الذكاء الجماعي المعزز بالحرية والثقة والمسؤولية بدلاً من التحكم والبيروقراطية المفرطة.

تؤكد أبحاث Hack Future Lab أن معظم القادة يعانون من مستويات قياسية من البيروقراطية المفرطة، مما يقلل من قدرتهم على التركيز على أولوياتهم الرئيسية. لا عجب أن معظم القادة يجدون صعوبة في التركيز على ما هو مهم حقاً. فالقادة مرهقون: من الشاشات، من الاجتماعات، من التعاون المفرط، ومن البيروقراطية. ومع وجود أكثر من 41 تريليون دولار من قيمة الشركات معرضة للخطر بسبب الاضطرابات، وإهدار 17 تريليون دولار سنوياً على البيروقراطية المفرطة عالمياً، يعتقد 93٪ من القادة أن البيروقراطية المفرطة قد تكون أحد أكبر العوائق أمام النمو في عصرنا.
كلما أخفقنا في التخلص من أساليب “الزومبي”، مثل كثرة الاجتماعات ورسائل البريد الإلكتروني التي تضخم أهمية الأمور البسيطة، أو التقييمات السنوية للأداء التي تتحول إلى إجراءات شكلية، كلما قلت طاقتنا للتركيز على أنشطة القيادة ذات القيمة العالية. يجب دائمًا تقليص البيروقراطية، تماماً كما نفعل مع التكاليف. هذا هو جوهر البيروقراطية المفرطة، وهو داء مؤسسي يعاني منه القادة ويهدر المواهب.
المواهب التي تسحقها البيروقراطية:
- ثلث القادة يقضون 700 ساعة سنوياً (33.3٪ من إجمالي ساعات عملهم) على “البيروقراطية الفارغة”.
- ثلث القادة يخصصون وقتاً أطول للقيادة السطحية (ذات التأثير المنخفض) مقارنة بالقيادة العميقة (ذات التأثير العالي) بسبب “البيروقراطية الفارغة”.
- نصف القادة يهدرون الوقت في استخدام عمليات يدوية، وممارسات “معطلة”، وبروتوكولات زائدة يمكن أتمتتها أو التخلص منها.
- نصف القادة يتفقون على أن “البيروقراطية الفارغة” تمثل “ضريبة على القيادة” تؤثر على السرعة والمرونة والمواهب.
إن أكبر تهديد للأداء طويل المدى والرفاهية والنمو المستدام ليس تقلبات السوق أو التطور التكنولوجي المتسارع، بل الفشل في القضاء على البيروقراطية المفرطة في مؤسساتنا والتي أصبحت أمراً معتاداً. الخلاصة الرئيسية هي أنه كلما زادت البيروقراطية المفرطة، كلما تباطأت عملية اتخاذ القرارات، وزاد تجنب المخاطر، وأصبح من الصعب قيادة المستقبل.

فما الذي يمكنك فعله بشكل مختلف للتحول من قائد بيروقراطي إلى قائد ذكي؟
في شركة “باير” (Bayer)، الرائدة في مجال الأدوية الحيوية، يتم استخدام نموذج “الملكية المشتركة الديناميكية” (Dynamic Shared Ownership – DSO) لتعزيز الاعتماد على الذات والإدارة المرنة: منظمة مسطحة، سريعة، ومتكيفة رغم إرثها وتعقيدها. إذا كان هناك معادلة لهذا النموذج، فستكون “القيادة = الثقة + الحرية × الملكية”. يُتوقع من الموظفين تقديم الحس السليم على البيروقراطية وإضفاء الطابع الديمقراطي على الأفكار والقرارات من خلال طرح الأسئلة التالية: “هل قواعدنا واجتماعاتنا وعملياتنا تخدمنا أم تعيقنا؟ هل نكافئ العمل البيروقراطي والسلوكيات البيروقراطية (فعل الأشياء بشكل صحيح) أكثر من الفضول والابتكار (فعل الشيء الذكي)؟ إذا كانت الإجابة “نعم”، فقد حان الوقت للتبسيط أو الإلغاء أو الأتمتة أو الاستعانة بمصادر خارجية (SEAO).
تعاني العديد من الشركات من “داء الإضافة”، حيث يميل الناس إلى إضافة المزيد من العقبات وإبطاء عمليات التفكير واتخاذ القرارات. يقول بيل أندرسون، الرئيس التنفيذي لشركة باير: “إذا أردت أن تكون شركة كبيرة وليس ديناصورًا، عليك إيجاد طريقة للتطور بسرعة، والتكيف، والتغيير، وإعادة اختراع نفسك”.
الدرس المستفاد هو أننا جميعاً مسؤولون عن تقليل الضريبة القيادية الناتجة عن البيروقراطية المفرطة والهياكل الجامدة، وذلك لاحتضان المستقبل والبقاء في طليعة التغيير.