بات الذكاء الاصطناعي مكوّناً أساسياً من مكوّنات العصر الرقمي الذي نشهده الآن، وأداة مسخّرة لخدمة اللغة العربية، بهدف تحقيق التكامل بين التكنولوجيا والتراث الثقافي، ومزيد من الانتشار والتطوّر والمحافظة على مكانتها البارزة في عالم الثقافة والمعرفة. فالذكاء الاصطناعي بحركته السريعة، وطاقته الفعّالة، وامتداداته الكبيرة، وتأثيراته العميقة، وقدرته الفائقة على تعزيز الفهم الثقافي بين الشعوب، عبر تطوير أدوات تفاعلية تربط بين المعرفة العالمية وتراثنا اللغوي، يفتح أفقاً جديداً رحباً للغة العربية، ويرسّخ دورها في الحفاظ على الهوية الثقافية، وعلى ديمومة الحضور والحوار بين مختلف الثقافات.
كما يتيح استخدام برامج الذكاء الاصطناعي المتعدّدة تحقيق هدف أكبر، وهو مواكبة منجزات العصر الحديث، بكل معطياته، فلا نكون في دولة الإمارات خارج عملية التطوّر والتقدّم الحضاري، بل مساهمين فعّالين في العصر الرقمي الذي أحدثت تقنياته وابتكاراته ثورة في عالم التكنولوجيا، وذلك من خلال الجامعات التقنية في الدولة، وأبرزها جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي والدراسات العليا البحثية، وإطلاق فعّاليات متخصصة، واستضافة المبرمجين والمبتكرين في هذا المجال الحيوي المهم، لاكتساب الخبرات، وتبادلها في آن معاً.
فوائد وإيجابيات
وعن إيجابيات العصر الرقمي، والفوائد التي يقدّمها الذكاء الاصطناعي للغة العربية، قال سعادته:
ثمة فوائد كثيرة قدّمها الذكاء الاصطناعي إلى اللغة العربية، فقد أحرزت برامجه تقدماً واضحاً في الأنظمة التي تمّ تطويرها لتحسين جودة الترجمات الآلية من وإلى العربية، كما ساهمت برامجه في ترسيخ حضور اللغة العربية، ورفع مستوى جودة محتواها، وإمكانية تعلّمها لغير الناطقين بها، والذي يعمل على انتشارها، ويعزز الهوية الثقافية العربية.
وببعض التفصيل، نجد أن أبسط فوائد الذكاء الاصطناعي وأقدمها، المدقق اللغوي الإلكتروني في ملفات الكتابة، وتنبيه الكاتب إلى الأخطاء وإلى تكرار الكلمات وعددها، مروراً بالنشر الرقمي والمعاجم الرقمية، والترجمة العالية الجودة والاستماع إليها بصوت غير بشري، بما يوفر فرصة لأصحاب الهمم للاستماع إلى الكتب، ويتيح لمحبي الثقافة البصرية مشاهدة تسجيلات مرئية للنصوص العربية، وصولاً إلى توثيق الموروث الثقافي من خلال توفير أدوات تحليل النصوص والمخطوطات، وتطوير تطبيقات تعلّم اللغة العربية، والمنصات التفاعلية بالذكاء الاصطناعي.. وهذا غيض من فيض فوائد برامج الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات فيما يخص اللغة العربية.

نتائج مشجعة
وفيما يخص نتائج استخدام مركز أبوظبي للغة العربية، لبرامج الذكاء الاصطناعي في مشاريعه ومبادراته، قال سعادته:
استفدنا في المركز من برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، بما يخدم أهداف المركز في تعزيز اللغة العربية وتسهيل وصول الجمهور إلى مواردها. فاعتمدنا على تقنيات وتطبيقات مبتكرة وحديثة في أقسامه، وفعّالياته، في مجال النشر الرقمي، وإطلاق “معجم دليل المعاني” وهو موقع وتطبيق لأول قاموس رقمي عربي- إنجليزي شامل. وتوفير مجموعة واسعة من “الكتب الصوتية” من مختلف الأنواع، ليتم توجيهها إلى من يعانون إعاقات بصرية أو صعوبات في القراءة. وهناك “مختبر الذكاء الشعري” الذي يساعد طلاب ومدرسيّ اللغة العربية على تعلم وتعليم مهارات وبحور وفنون الشعر. إلى جانب تنظيم جولات افتراضية، منها في مكتبة “قصر الوطن”. ومبادرات وبرامج أخرى تضمّ محاضرات وورشات، تمكّن الجمهور من مصادر المعرفة.
ومن الواضح أن اللغة العربية تتكيّف مع العصر الرقمي، ولا تتراجع. فمن خلال تجربة تطبيقنا لبرامج الذكاء الاصطناعي التي تسألون عن نتائجها، يمكن القول بأنها كانت ناجحة ومشجعة. وقد انعكست نتائجها على حجم المبيعات الرقمية، التي حقّقت عام 2024 زيادة قدرها 644 في المائة عن عام 2023، كما بلغ عدد النسخ الرقمية المبيعة ارتفاعاً مقداره 144 في المائة، ما يعني إقبال الجمهور على استخدام برامج الذكاء الاصطناعي والاستمتاع بها (وهذا مؤشّر من ضمن مؤشرات عديدة).
مشاركة الشباب

وعن تشجيع الشباب لدخول العصر الرقمي، قال سعادته:
النجاح الذي حقّقته التجربة، دفعت المركز، ضمن ترتيباته للدورة 34 من معرض أبوظبي للكتاب لهذا العام، إلى تنظيم باقة من الجلسات الحوارية لاستكشاف تأثيرات الذكاء الاصطناعي على صناعة النشر، واستعراض تطبيقات مبتكرة لهذه التقنية، بالإضافة إلى خطط وبرامج تساعد المهنيين في هذا القطاع الحيوي على البقاء في أجواء التوجّهات التكنولوجية.
وكذلك تشجيع الشباب على اقتحام مجالات الثورة الرقمية محصّنين بالعلم والمعرفة والشغف، وعدم القلق من تحوّل التكنولوجيا إلى منافس غير عادل لمواهبهم الأدبية وإبداعهم، مع العمل على تعزيز مشاركة طلاب وطالبات الجامعة، وتمكين الأجيال من استكشاف دور الذكاء الاصطناعي في بلورة مستقبل اللغة العربية وصناعة النشر. إضافة إلى منح جوائز للنشر الرقمي مخصصة لجيل الشباب، تُمنح في “مؤتمر النشر الدولي والصناعات الإبداعية”، الذي يُنظّمه معرض أبوظبي للكتاب ضمن فعّالياته الرئيسية.
مخاوف وتحديات
وحول بعض المخاوف التي تتردّد بشأن العصر الرقمي وهيمنته برامجه على معظم المجالات، قال سعادته:
قد تكون مخاوف البعض من العصر الرقمي وبرامج الذكاء الاصطناعي المتعدّدة، مقبولة أو مفهومة. لأنها تنطلق من الخوف البشري الاعتيادي إزاء كل ما هو مبتكر وجديد سواء أكان اختراعاً أم جهازاً أم ما شابه ذلك.
ولم يعد الذكاء الاصطناعي حديث الشارع فحسب، بل صار هاجساً مؤرّقاً لكثير من المنظومات المؤسسية، إلى جانب الناس أيضاً. وبخاصة بعد أن هيمنت برامجه بسرعة على الكثير من مجالات الحياة.
لكنني أرى تحدّيات أكبر من تلك العبارات والمخاوف التي علينا مواجهتها وإيجاد الحلول لها، بأن نلتفت في العصر الرقمي إلى تعزيز تنوّع أشكال التعبير الثقافي، والمحافظة على ثراء التعابير الثقافية في عالم تحكمه الأنظمة الذكية للشركات التكنولوجية.
وحماية حقوق الملكية الفكرية، والالتفات إلى الأدباء والفنانين والمفكّرين في مواجهة هذا التحوّل. مع ملاحظة أنه لا يوجد في عالمنا العربي جاهزية أو موارد لإطلاق برامج تدريبية في التقنيات الرقمية. ولم تُدرج هذه الثقافة أو العلوم في المناهج الدراسية لتسليح التلاميذ والطلاب بالعلم والمعرفة.
وهذه التحدّيات، لا يردّدها فقط المجتمع الثقافي فيما بين المثقفين والمعنيين بشأن اللغة العربية والفنون الإبداعية، بل هي تحدّيات تسعى أيضاً منظمة “يونسكو” لإيجاد حلول لها أو إطلاق توصيات بشأنها.

فقد كلّفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو” مجموعة تفكير دولية، بدراسة العلاقة بين التكنولوجيا والثقافة في العصر الرقمي، والخروج بتوصيات لمواجهة التحدّيات التي قد تنشأ عن الأنظمة الذكية التي تطوّرها شركات التكنولوجيا العملاقة. وخرجت المجموعة بعدّة توصيات، نجد أنها تتقاطع بل تتماهى مع المقترحات التي قدّمها المركز منطلقاً من رؤيته الاستراتيجية.. مثلما جاء في أهم توصيات “يونسكو” التي تتعلق باللغة العربية وتتصل مباشرة بمجتمعنا العربي.
كما تمت إضافة بروتوكول جديد إلى اتفاقية “يونسكو” لعام 2005 حول حماية وتعزيز تنوّع أشكال التعبير الثقافي. بحيث يُلزم المنصات الرقمية باحترام التعدّد اللغوي والثقافي، ويمنح الدول الأدوات اللازمة لحماية هذا التنوّع. وكذلك إنشاء منصة دولية لمتابعة تطوّر التنوّع تسهم في تعزيز عملية جمع البيانات وتحليل مدى ظهور المحتوى الثقافي الوطني والمحلي على المنصات.
وكذلك مراقبة عمل الخوارزميات للتأكّد من أنها تروّج للتنوّع ولا تقترح محتوى موحّداً. والعمل على تأهيل الطاقات البشرية على فهم آليات عمل العصر الرقمي لمزيد من المعرفة والتحصين. وتمكين الطلاب عبر مناهج دراسية ليصبحوا أكثر قدرة على فهم وانتقاد كيفية عمل الخوارزميات. وإقامة دورات تدريب في علوم التكنولوجيا للأدباء والمترجمين والفنّانين والمثقّفين.
ومن جهة أخرى، أجد أن الإنسان بطبعه ينزع إلى مواكبة كل جديد في عصرنا والإحاطة به، لهذا أتطلع إلى أجيالنا التي نجحت في العلم والعمل والابتكار، ونالت ثقة قيادتنا الرشيدة التي وفّرت لها كل سبل الثقافة والعلم والمعرفة، واستحقّت دعمها المتواصل. وأثق أنها لن تكتفي باستقطاب مزايا العصر الرقمي، بل ستساهم في ابتكار أفكار وبرامج جديدة، تؤكّد معها أن اللغة العربية لن تتراجع، ولن تكتفي بالتكيّف مع العصر الرقمي، وستساعد في نجاح برامجه ورفدها بما يخدم الحفاظ على هويته الوطنية الثقافية، وتعزيز اللغة العربية.