في عالم يشهد تحولاً متنامياً ومتسارعاً نحو إنشاء البيئات الحضرية، لم يَعد نجاح المدن يُقاس بالنمو الاقتصادي أو بالأيقونات المعمارية فحسب، بل بمدى دعمها لرفاهية الإنسان.
ورغم أن التحول العالمي نحو المدن المستدامة يركّز في الغالب على جوانب إزالة الكربون والطاقة المتجددة والبنية التحتية الصديقة للبيئة، إلا أن الاستدامة لا يمكن أن تنفصل عن التجربة الإنسانية، بل يجب أن تكون مرادفاً لجودة الحياة على المستوى النفسي والبدني والاجتماعي.
مدن قلقة
في قائمة للوجهات الأكثر إثارة للقلق في العالم، ظهرت مدن من الشرق والغرب، دون أن تشمل أي مدينة من المنطقة العربية. ووُصفت بعض أشهر مدن العالم، مثل طوكيو ونيويورك ولندن وباريس وشنغهاي، بكلمات مثل “مكتظة” و”مرهقة”، بحسب آراء من زاروها.
ولا يخفى على أحد أن الصحة النفسية لسكان المدن تمتد إلى ما هو أبعد من حدود البيولوجيا الفردية أو الظروف الشخصية؛ فهي متجذرة في النسيج المادي للحياة الحضرية ذاتها. الشوارع التي نمشي فيها والأبنية التي نسكنها والمساحات التي نجتمع ضمنها، تشكّل مجتمعة ملامحنا النفسية بطرائق قد لا تظهر بوضوح لكنها عميقة الأثر.
ومع تزايد الهجرة نحو المدن عالمياً، تنامت أهمية التخطيط الحضري من كونه مجرد تخصص فني إلى عنصر أساسي في سياسة الصحة العامة. ولا يمكن معالجة الاكتئاب، الذي يُصنّف بين أكثر الأزمات الصحية إلحاحاً على مستوى العالم، من خلال العلاج السريري لوحده. فالمدن، حيث يعيش الملايين ويعملون ويكوّنون علاقاتهم، تمارس تأثيراً مستمراً على الصحة النفسية، وغالباً لا يحظى بالاهتمام الذي يستحقه.
ويشير عدد متنامٍ من الأبحاث إلى دور التصميمات الحضرية في إحداث تأثيرات نفسية عميقة، ذلك أن طريقة تخطيط الأحياء، وتوفّر المساحات الخضراء، وجودة المساكن، وسهولة الوصول إلى الموارد المجتمعية، تشكل عوامل تُحدد ما إذا كان السكان سيشعرون بالعزلة أم بالانتماء، بالتوتر أم بالسكينة، باليأس أم بالأمل. فالمدن تؤدي دوراً فاعلاً في تشكيل مشاعر الإنسان وقدرته على مواجهة الضغوطات وليست مجرد عنصر هامشي في حياته.
ولطالما أكدت الدراسات دور المساحات الخضراء في تخفيف التوتر وتحسين الوظائف المعرفية وتقوية الشعور بالانتماء للمجتمع. ووفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي، فإن تصميم المدن يؤثر مباشرة في الصحة النفسية، بدءاً من مدى ملاءمة الأحياء للمشي، ووصولاً إلى قرب المساحات الطبيعية وأماكن التفاعل الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، تشير الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يعيشون في بيئات مستدامة ومدمجة مع الطبيعة أكثر ميلاً للإبلاغ عن رضا أعلى عن حياتهم ومستويات أقل من القلق.
ويتطلب هذا الفهم تحولاً جذرياً في كيفية مقاربتنا للتنمية الحضرية، وإدراكنا بأن كل قرار في عملية التخطيط سينعكس لاحقاً على الصحة النفسية للسكان.

الإنسان أولاً
تهدف الأجندة الوطنية الخضراء لدولة الإمارات، بحلول عام 2030، إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح بين 4 إلى 5%، ورفع قيمة الصادرات بنحو 24 إلى 25 مليار درهم، وتقليل الانبعاثات إلى أقل من 100 كيلوواط ساعي. وبينما نمضي قدماً نحو تحقيق هذه الأهداف، لا بد أن تتطور النقاشات حول الاستدامة لتشمل رفاه الإنسان بصفته عنصراً أساسياً. فالرفاهية ليست نتيجة فرعية للاستدامة، بل هي جوهرها وغرضها الأسمى.
وفي مدينة الشارقة المستدامة، دمجنا هذا المبدأ الذي يضع الإنسان في المقام الأول داخل نسيجنا الحضري. من البداية، لم نرَ المدينة كمجموعة مبانٍ فحسب، بل كنظام بيئي حي ينبض بالحياة، صُمم ليعزز الرفاهية على كل المستويات.
فأحياؤنا مُصممة للمشي، مما يقلل الاعتماد على السيارات ويشجع على النشاط البدني. وتُعيد البيوت الخضراء والمزارع المجتمعية ربط السكان بالطبيعة ومصادر الغذاء، مما يعزز الوعي البيئي والصفاء الذهني. فيما تشكل الحدائق العامة والمساحات المجتمعية ركائز أساسية لازدهار مجتمعاتنا. ومن خلال دمج التقنيات الذكية التي تراقب كفاءة استهلاك الطاقة والصحة البيئية، نضمن أسلوب حياة مستدام ومريح.
ويكمن جوهر الرفاهية في تعزيز الروابط الإنسانية الهادفة، فالمساحات متعددة الاستخدامات، والمبادرات التشاركية، والتخطيط الحضري الشامل، ترسي شعوراً بالانتماء، وهو جانب تكافح العديد من المدن العالمية للحفاظ عليه في عصر العزلة الرقمية.
وفي ظل ما تواجهه المدن في مختلف أنحاء العالم من ضغط النمو السكاني من جهة والإجهاد البيئي من جهة أخرى، ولا سيما عند الأجيال الأصغر، يجب أن يتحول التخطيط الحضري إلى أداة للشفاء، لا أن يكون مجرد وسيلة لتوفير المساكن. فنجاح البيئات الحضرية في المستقبل لا يُقاس بعلوّ ما يُبنى بل بجودته، حيث يكون الهواء أنظف والمجتمعات أقوى ويعيش الناس شعوراً حقيقياً بالسعادة والارتياح.
إذاً، الطريق بات واضحاً، فنحن نحتاج إلى مدن توازن بين رعاية البيئة ورفاه سكانها.

			  
			  
			  
						