مثّلت الاكتتابات العامة توجهاً أساسياً ضمن هذه المعجزة الاقتصادية، حيث جمعت الشركات التي أجرت عمليات الطرح الأولي العام التي بلغت 126 اكتتاباً عاماً منذ العام 2021 وحتى الآن، نحو 50 مليار دولار من التمويلات، في توجّهٍ معاكسٍ للمشهد العالمي في هذا الجانب إلى حدٍ كبير.
في تقريرنا الذي نشرناه مؤخراً تحت عنوان “مسار ضبط السرعة”، وصفنا الحالة التي تشهدها دولة الإمارات العربية المتحدة حالياً بأنها ’معجزة اقتصادية’، فيما يمكن أن ينطبق هذا الوصف كذلك على المنطقة ككل على خلفية الإنفاق الكبير لحكومات دول المنطقة على البنى التحتية والأسعار المرتفعة للنفط والتوجهات التي نشهدها حالياً في مجال الطاقة. كما عرَّفنا في تقريرنا السابق سيناريوهات حالة الاقتصاد المعتدل الحالية التي تمثل فترة التوازن المثالي, النمو المعتدل والتضخم المنخفض، وبالتالي إتاحة الظروف الاقتصادية المثالية والمستدامة.
ما هو الوضع في المنطقة الآن؟ وإلى أين تتجه موجة الاكتتابات العامة هذه حسب اعتقادنا؟
الاكتتابات العامة في دول مجلس التعاون على الخارطة العالمية
بلغ إجمالي عائدات عمليات الطرح الأولي العام الإقليمية في دول مجلس التعاون خلال العام 2021، 7.7 مليار دولار أمريكي بواقع 21 اكتتاباً عاماً، لتمثل هذه الأرقام نحو 3 أضعاف عمليات الطرح الأولي العام مقارنة بالعام السابق، ونحو 4 أضعاف من حيث العائدات. تميزت هذه الدورة من عمليات الطرح الأولي العام بعدد أكبر من حيث الصفقات الكبرى، مصحوبةً بازدياد شهية المستثمرين المحليين والدوليين لعمليات الاكتتابات العامة، حيث تصدرت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة هذا التوجه المتصاعد إقليمياً، بما يتماشى بطبيعة الحال مع حجم اقتصاديهما وأسواق رأس المال فيهما.
برزت عمليات الطرح الأولي العام في منطقة دول مجلس التعاون في العام 2022 خلافاً للتوجه العالمي، حيث سجلت 22.9 مليار دولار من حيث المبالغ التي تم جمعها، ما يعادل زيادة بمقدار 3 مرات، وعلى الجانب الآخر، سجلت أنشطة الاكتتابات العامة حول العالم هبوطاً بنسبة 60%، حيث حازت المملكة العربية السعودية نصيب الأسد من حيث أعداد الاكتتابات العامة باستقبالها 36 شركة جديدة في بورصتها المالية، فيما استقطبت الإمارات العربية المتحدة إلى أسواقها المالية نحو 55% من إجمالي قيمة عمليات الطرح الأولي العام الجديدة بواقع نحو 12.2 مليار دولار.
كان تباطؤ النمو العالمي أحد أبرز ملامح العام 2023 الذي شهد كذلك ارتفاع أسعار الفائدة والثبات النسبي لصعود مستويات التضخم، فضلاً عن ارتفاع وتيرة التوترات الجيوسياسية، وهي العوامل التي ألقت بظلالها السالبة على مشهد
الاكتتابات العامة حول العالم، حيث سجلت هبوطاً بنسبة بلغت 33%. وفي المقابل، واصلت الأسواق الخليجية زخمها الكبير في هذا الجانب خلال ذات الفترة بتسجيلها 47 عملية طرح أولي عام مقارنة بـ 48 اكتتاباً عاماً في العام السابق، ورغم ذلك فقد هبطت عائدات تلك الأنشطة إلى نحو 10.6 مليار دولار، ما يشير إلى تضاؤل حجم الاستثمارات في هذا الجانب بشكل طفيف. وواصلت المملكة العربية السعودية تصدُّر الركب من حيث أعداد أنشطة الاكتتاب باستئثارها بنحو 77% من إجماليها على المستوى الإقليمي، بينما حازت أسواق دولة الإمارات العربية المتحدة ما نسبته 60% من إجمالي عائدات تلك الصفقات.
هل سيستمر هذا التوجه بوتيرة مستدامة؟
لا شك في أن تزايد أنشطة الإدراج في سوق الأسهم والبورصات، هو مظهر من مظاهر قوة الاقتصاد وجودة أدائه، والذي تجتمع فيه رؤوس الأموال مع الشهية العالية للمستثمرين. ويتعين أن تثمر عمليات الطرح الأولي العام عن نجاحات كبيرة تؤدي في النهاية إلى ترسيخ توجه مستدام كما هو الحال مع ما نشهده الآن بأسواق دول مجلس التعاون الخليجي، إلى جانب ضرورة كونها جزءاً أصيلاً من منظومة اقتصادية صحية وسليمة، وأن تتسم بأهمية بالغة بالنسبة لجميع المعنيين وأصحاب المصلحة.
تعد أسواق الاكتتابات العامة مهمة للغاية بالنسبة للجهات التنظيمية لدورها الفاعل في حفز النمو، حيث تؤدي المزيد من الاكتتابات العامة إلى زيادة رؤوس الأموال المتاحة في السوق، وتعمل على تعزيز توفر السيولة ورفع مستوى ديناميكية السوق ونشاطه، وهي العوامل التي تؤدي جميعها في نهاية المطاف إلى استقطاب المزيد من المستثمرين ورؤوس الأموال، وذلك في حال حققت دورة السوق ما هو متوقع منها بدون أي مفاجآت.
ومع مرور الوقت، تؤدي دورة السوق المتوقعة إلى مستوىً أكبر من حيث نضوج أسواق رأس المال، وهو العامل المطلوب لتحقيق النمو الاقتصادي المنشود. وتضع غالبية أسواق الأسهم الإقليمية بطبيعة الحال، نصب عينيها إعادة تصنيفها بواسطة المؤشرات العالمية لتكون ضمن فئة “الأسواق المتقدمة”، عوضاً عن تصنيفها تحت فئات “الأسواق الواعدة” أو “الأسواق الناشئة”، حيث تضطلع طفرة أنشطة الاكتتابات العامة بدورٍ محوريٍ في الطريق نحو بلوغ هذا الهدف.
تتيح أنشطة الإدراج لجهات الإصدار جمع رؤوس الأموال اللازمة لتحقيق النمو المستقبلي وتحقيق مداخيل الأسهم المُستبقاة لفترات طويلة أو حتى اكتساب المصداقية أو تكوين رؤية مستقبلية واضحة. وفي جميع الحالات، يكون تكوين الثروات وتحقيق النمو هي الهدف النهائي لهذه الأنشطة والتوجهات. وبحكم أن الثروة تحقق أقصى فائدة للجهة التي كانت في الماضي مجرد خلية اقتصادية، فإن إيجابياتها يمكن أن تعود بالفائدة على المنظومة الاقتصادية ككل. وبالنسبة للمستثمرين، فإن عمليات الإدراج تفتح الباب أمامهم لاقتناص فرص استثمارية تمكنهم بدايةً من جني مكاسب سريعة، ومن ثم تحقيق المزيد من الأرباح والمكاسب على المدى الطويل في حال تمكنت الأصول المدرجة من تحقيق نمو ملحوظ مع مرور الوقت.
تشير التقديرات إلى أن أنشطة الطرح الاولي العام في أسواق دولة الإمارات العربية المتحدة، تساهم بما يصل إلى 753 مليار درهم، أو ما يفوق الـ 200 مليار دولار أمريكي في إجمالي رؤوس الأموال المتاحة للاستثمار في الأسواق حالياً، وتزامناً مع ذلك،
فقد ارتفع أداء سوق الأسهم والبورصات المحلية بنسبة 77% منذ العام 2021، الأمر الذي يشير إلى أن أنشطة الإدراج الجديدة تساهم بنصف النمو الذي تحققه الأسواق وفقاً لتقديراتنا.
عام الإبحار السلس
كان أداء أسواق الأسهم في دولة الإمارات العربية المتحدة جيداً للغاية خلال السنوات القليلة الماضية، بينما كان لعمليات الإدراج الجديدة، دورٌ بالغ الأهمية في بلوغ هذا المستوى من النجاح. كما يبدو أن المسار الإيجابي لدورة السوق سيواصل زخمه نتيجة لسلسلة من عمليات الطرح الأولي العام المتوقعة على المستوى الإقليمي خلال الفترة المقبلة، وذلك مع إعلان أكثر من 29 شركة حتى الآن عزمها طرح أسهمها للاكتتاب العام.
يتعين على كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مواصلة قيادة هذا التوجه الإيجابي، بينما نتوقع رغبةً كبيرة من الأسواق الأصغر حجماً لمواكبة هذا التوجه المتنامي في كل من السعودية والإمارات، حيث بدأت الآن عدوى التحول نحو القطاع الخاص في الانتشار بما يؤدي في نهاية المطاف إلى اكتسابها بعض الزخم. وفي حال غياب عوامل جوهرية مثل الركود أو الاندماج المستدام للأسواق أو حدوث توترات جيوسياسية بارزة، فإن الظروف الراهنة تشير إلى أن أنشطة الاكتتابات العامة في المنطقة ستشهد نمواً ملحوظاً خلال العام 2024 وما بعده.