Posted inمجتمع

الانفتاح لا يلغي التدين

ساد اعتقاد لفترة طويلة بين الأوساط الدينية السعودية أن مجتمع جدة المنفتح غير محافظ وغير متدين لكن إحصائات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أظهرت العكس.

ذهبت يوم الأحد لحضور أول لقاء يجتمع فيه مجتمع الأعمال في مدينة جدة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ارتبط إسمها لفترة طويلة بصور عديدة سلبية.

وفي بداية اللقاء الطويل والذي أستمر لأكثر من ساعتين، فاجأ وكيل الرئيس العام للهيئة الشيخ إبراهيم الهويمل الحضور بعدة إحصائيات لدى الهيئة تعكس الصورة الحقيقية للتدين في مدينة جدة، تلك المدينة التي ارتبطت صورتها بالإنحلال الخلقي لدى العديد من أبناء المناطق الأخرى في المملكة ولدى العديد من مشايخ المملكة وعلماؤها.

وقبل أن يسرد الهويمل تصريحاته قال للحضور بأنه يحمل بشرى لهم وهذه البشرى هي أن جماهير جدة هي أكثر الجماهير في المملكة تطالب بضرورة وجود الهيئة فيها. وإستند الهويمل في استنتاجه على دراسة أكاديمية أعدتها أحد المراكز البحثية في أحد الجامعات السعودية والتي بينت أن عالبية سكان محافظة جدة يؤيدون الهيئة في اعمالها بنسبة تفوق 94 في المائة.

وعكست تعليقات الهويمل على الإحصائية النظرة السائدة المتعارفة بين الأوساط الدينية حول المدينة، والتي قال فيها: ” كنت مع غيري أظن أن تحصل جدة على النسبة الأقل بين مدن المملكة فإذا بها تحصل على النسبة الأعلى بين كل مدن المملكة”.

ولم تكن تلك الإحصائية هي المقياس الوحيد لتدين المجتمع في جدة إذ أظهرت إحصائات الهيئة أن عدد قضايا السحرة التي تلقي الهيئة القبض عليهم في جدة هي أقل منها في مكة المكرمة عاصمة الإسلام. ففي العام 1428 هجرية بلغت قضايا السحرة والمشعوذين في مكة المكرمة 486 قضية سحر في مكة وفي المملكة فوق الألفين قضية بينما بلغت في جدة 84 قضية سحر فقط.

وحتى على مستوى قضايا مصانع الخمور التي تنتج خموراً في الباطن كانت النتائج مرضية بالمقارنة مع باقي المدن والمناطق إذ من بين 450 مصنعاً للخمور أغلقت الهيئة 450 مصنعاً على مستوى المملكة منها 96 مصنعا في محافظة جدة وحدها بينما أغلفت الهيئة في منطقة الرياض 209 مصنعاً و 67 مصنعاً في منطقة عسير و 75 مصنعاً في المنطقة الشرقية.

وبعد سماعي لكل تلك الإحصائات دارت في بالي العديد من الأسئلة حولها وكان من أهمها السؤال التقليدي وهو لماذا ارتفعت النزعة الدينية للجماهير في جدة مقارنة بباقي المناطق؟

قبل أن أشرع في الإجابة عن هذا التساؤل أحب أن أوضح عدة حقائق حول تغييب الواقع الديني في جدة.

أولاً، لم تظهر صورة المجتمع الجداوي بالمظهر الديني في التاريخ السعودي، والذي يرجع إلى كتب التاريخ سيجد أن أتباع الشيخ محمد إبن عبدالوهاب في السنوات التي كانت جدة ومكة المكرمة تخضع فيها للحكم العثماني المباشر، كانوا يعترضون على العديد من المظاهر الإجتماعية لدى أهل جدة ومكة مثل تدخين التبغ وشرب الشيشة أو النارجيلة. وكان العديد من هؤلاء يحكون عن تلك المظاهر الإجتماعية السلبية في وجهة نظرهم في كتبهم ومؤلفاتهم ورسائلهم أو حتى على مستوى أحاديثهم الشخصية.

ثانياً، المجتمع في جدة منفتح بسبب اختلاف الثقافات فيه مما سهل لكل الجاليات أن تظهر في العلن وتمارس حياتها الإجتماعية بصورة طبيعية السلبية منها والإيجابية. وذلك التسامح الإجتماعي أظهر العديد من الأمور التي كان يرفضها المجتمع المحافظ في نجد والذي كان يحاول أن يفرض بإستمرار صورة معينة للتدين على المجتمع الجداوي المنفتح.

ثالثاً، ارتبط في ذهن العديد من الناس بأن جدة هي بوابة للحج وللحجيج وغالبية أهلها هم من الحجاج القادمين من البلدان الإسلامية المختلفة وهؤلاء تشوب معتقداتهم الدينية العديد من اللغط في نظر أنصار دعوة الشيخ محمد إبن عبدالوهاب.

رابعاً وهو الأهم، أن الأوساط الدينية السعودية لم تكن لديها أي وسيلة لإحصاء أو دراسة النظم الإجتماعية والسلوكيات الدينية للناس في المدينة غير الإعتماد على المشاهدات، ولأن في جدة كل شئ يحصل على العلن وأمام الملأ توقع الجميع أن هذا هو الواقع بينما كانت المجتمعات الأخرى تخفي كل شئ عن أعين المجتمع. وبالطبع لا ننسى هنا أن مجتمع المدينة المفتوح مختلف في تركيبته عن مجتمع البادية والهجرة والقرية الذي يعتمد بصورة كبيرة على الحفاظ على ماء الوجه أمام باقي أفراد القرية أو القبيلة.

أعود للإجابة عن السؤال المهم الذي كان ولا يزال يشغل بالي وهو لماذا جدة كانت عكس توقعات الهيئة.

في الحقيقة العوامل كثيرة جداً لا يسع لمقال رأي أن يلم بجميع جوانبها ولكن بتلخيص شديد أستطيع أن أقول أن التسامح الديني والانفتاح وتقبل الثقافات المختلفة كان له دور كبير في تمسك الناس بالدين إذ أن الناس كل ما أحسوا بخطر يهدد هويتهم الدينية فإنهم يتمسكون بها أكثر.

وعلى الناحية الاجتماعية والديموغرافية فإنه من الممكن أن أقول بأن الهجرة الداخلية إلى جدة ساهمت كثيراً في زرع توازن إجتماعي وديني في المدينة. فغالبية الذين يأتون للعيش من جدة هم من مناطق مختلفة غالبيتها محافظ ومتشدد في مسائل الدين والهوية الدينية ولعل هذا ما ساهم في رفع مستوى التدين في المدينة.

ولا يجب أن ننسى أن الصورة السلبية التي فرضها الجميع على جدة قد تكون هي السبب في تمسك الناس بالدين أكثر في محاولة منهم لأظهار أنفسهم أمام باقي المجتمعات أنهم ليسوا أقل منهم في شئ وأنهم غيورون على هويتهم الدينية مثلهم مثل باقي المجتمعات.

وبالطبع لا يمكننا أن نغفل أيضاً أن المجتمع الحجازي كانت تنتشر فيه العديد من المذاهب الإسلامية المختلفة مثل الصوفية أو حتى المذاهب الفقهية مثل مذهب الإمام مالك ومذهب الشافعي بينما كان مذهب الإمام أحمد بن حنبل هو المذهب السائد في منطقة نجد الذي تركز فيها غالبية علماء ومشايخ الإسلام في المملكة.

وبعد محاولتي عرض الأسباب التي أراها حول أسباب تمسك المجتمع الجداوي بمظاهر التدين يبقى أن أجيب عن سؤال مهم وهو ما الفائدة من الحديث عن هذا كله.

أولاً، لقد تغير العصر وتغيرت الأساليب التي يمكن فيها تقييم المجتمعات وأصبحت الأرقام والإحصائات مهمة بجانب المشاهدات والعوامل الأخرى المستخدمة في التقييم. وأصبح من المهم أن توجد احصائات مستمرة من جهات دينية مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد حتى نستطيع تقييم مدى تأثير الحياة المعاصرة على الحياة الدينية والروحانية.

ثانياً، أهمية وجود مؤشرات علمية تظهر لنا تأثير تغير الظروف الإقتصادية والثقافية على حياة الناس الإجتماعية والدينية خصوصاً أن المملكة مقبلة على أكبر انفتاح إقتصادي تشهده في تاريخها عقب دخولها منظمة التجارة العالمية.

ثالثاً، أن الانفتاح الفكري والإقتصادي ليس عائقاً أمام التدين ولكن بشرط أن توجد ثقافة مضادة مثل تلك التي تكونت في جدة في السنوات الأخيرة والتي في نظري ساهمت في تمسك الناس بضرورة وجود جهاز حكومي مثل الهيئة لحماية مجتمعهم من جميع مظاهر الإنحلال الديني والخلقي.

وحتى أكون منصفاً، إن كل هذه الإحصائيات والأرقام المقدمة من الهيئة هي مجرد وسيلة من عدة وسائل يتم قياس المجتمع بها، إذ أنه توجد هوامش للخطأ في ما تم عرضه مثل الخطأ في العينة التي استخدمت في الدراسات أو أن هناك قصوراً في عمل الهيئة في منطقة بينما تنشط الهيئة في مناطق أخرى. ولكن هذه بداية طيبة لفهم ما يحدث في السعودية وما يمكن أن يحدث في السنوات القادمة التي سيكون للحفاظ على الهوية الدينية فيها دوركبير في النمو المتوازن فنحن في نهاية الأمر لا نريد أن يحصل لجدة مثل ما حصل لدبي من قبلها الذي قال ابن من أبنائها وهو الفريق ضاحي بن خلفان: “نبنى العمارات ونخشى أن نفقد الإمارات”.

للاطلاع على  أحدث الأخبار  و أخبار  الشركات من السعودية والإمارات ودول الخليج تابعنا عبر تويتر  و  لينكد إن وسجل اعجابك على فيسبوك واشترك بقناتنا على يوتيوب  والتي يتم تحديثها يوميا