المسؤولية الاجتماعية للشركات هي مساهمة الشركة أو المنشأة في حل التحديات الاجتماعية أو البيئية أو الاقتصادية بنهج تنموي وبناء هوية الاقتصاد المستدام، وقد تكون ممارسات المسؤولية الاجتماعية أما طوعاً أو إلزاماً.
تشكل مفهوم المسؤولية الاجتماعية في عام 1970 على يد الاقتصادي ميلتون فريدمان، مع أن ممارسات المسؤولية الاجتماعية كانت موجودة قبل ذلك بكثير، إلا أن عقيدة فريدمان شكلت فارقاً في خريطة المسؤولية الاجتماعية، ومن ثم توالت كثير من الابتكارات والمعايير والأطر على آليات المسؤولية الاجتماعي.
نذكر من أبرزها مبادرة منظمة التنمية الصناعية التابعة للأمم المتحدة بتطوير برنامج المسؤولية الاجتماعية للشركات بإطار جديد قائم على إدارة النهج ثلاثي القاعدة، وهي الأخذ بعين الاعتبار الأرباح والأشخاص والبيئة، فيما طورت الأمم المتحدة البرنامج العالمي لأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، هذه الأهداف جميعها قائمة على ثلاثة محاور، وهي الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وهي نفس القضايا التي تعالجها المسؤولية الاجتماعية، ونذكر أيضاً المنظمة الدولية للمواصفات والمقاييس أيزو التي ابتكرت إطارها المرجعي للمسؤولية الاجتماعية 26000 والقائم حول تقديم دليل إرشادي للقطاع العام والقطاع الخاص والمنظمات الحكومية وغير الحكومية حول المسؤولية الاجتماعية.
الإحصاءات
لم تتشكل البنية العالمية للمسؤولية الاجتماعية فتباعاً لا يوجد رقم إحصائي دقيق يقيس حجم الإنجاز أو الاحتياج مباشرة، ولكن قد يستنتج حجم مشاركة المسؤولية الاجتماعية في الناتج القومي المحلي سواءً من مشاركة الاقتصاد الاجتماعي أو من خلال الاستثمار الاجتماعي أو من خلال ناتج الاقتصاد ككل وخصوصاً من القطاع الخاص، فاعتباريا تتراوح مشاركة المسؤولية الاجتماعية للشركات من 1% إلى 5% من صافي الأرباح السنوية المعلنة.
مؤشر S&P 500، وهو المؤشر الذي يقيس أداء 500 شركة كبيرة مدرجة على البورصات الأمريكية، أوضح في تقارير هذه الشركات للمسؤولية الاجتماعية الصادر في 2019 أن 90% من هذه الشركات قدموا ممارسات مسؤولية اجتماعية مطابقة للمواصفات مقارنةً بـ 20% للتقارير الصادرة عام 2012.
الاستدلال بالتجربة الهندية حيث تعد الهند أول دولة أقرت الالتزام في الاستثمار في المسؤولية الاجتماعية للشركات ضمن نظام تشريعي محوكما وفئات ربحية محددة، وذلك بتخصيص 2% من العوائد الربحية للشركات لثلاث سنين متتالية في مبادرات المسؤولية الاجتماعية، مما أنتج في العام 2021-2022 نحو 260 مليار روبية هندية أي ما يعادل نحو 100 مليون دولار أمريكي، شاركت فيها 19 ألف شركة، وتنوعت برامج المسؤولية الاجتماعية إلى 14 قطاعاً، احتلت البرامج التنموية في قطاع الصحة والتعليم 60% من حجم المشاريع الإجمالية التي تزيد عن 40 ألف برنامج، وذلك بحسب منصة المسؤولية الاجتماعية الهندية.
النماذج العربية
استشرقت الدول العربية الأهمية التي تقدمها ممارسات المسؤولية الاجتماعية في بناء اقتصاد مستدام وتعزيز مفهوم الاستثمار الاجتماعي، وكان في مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة التي أولت المسؤولية الاجتماعية وممارسات الاستدامة الأسبقية من خلال اعتماد استراتيجيات المسؤولية الاجتماعية في جميع المؤسسات الحكومية إلى جانب تفعيل منظومة راسخة للمسؤولية الاجتماعية تعمل على تشجيع القطاع الخاص للانخراط بصورة مستدامة في ممارسات المسؤولية الاجتماعية، فقد أسست دولة الإمارات كياناً مستقلاً، وهو المركز الوطني للمسؤولية الاجتماعية (مجرا) الذي يعمل بنهج ابتكاري وسريع على التشريعات اللازمة والأطر اللازمة للمسؤولية الاجتماعية للشركات ضمن منظومة مبتكرة تعمل على نظام حوكمة متقن يتح لجميع أصحاب المصلحة من زيادة إنتاج وكفاءة ممارسات المسؤولية الاجتماعية وقياس الأثر المستدام ضمن الأهداف التنموية المستدامة.
كما وأطلقت دائرة التنمية المجتمعية دليل المسؤولية الاجتماعية للشركات الذي يعد مرجعاً مهماً لابتكاره قوانين تشريعية مرجعية للشركات لمعايير المسؤولية الاجتماعية منبثقة من هوية الاقتصاد الإماراتي ومتماشية مع المعايير العالمية للمسؤولية الاجتماعية، إضافةً إلى ذلك فقد أنشأت أيضاً دائرة التنمية المجتمعية، هيئة المساهمات المجتمعية (معاً) التي تعمل وفق استراتيجية تهدف لترسيخ ثقافة التعاون والتكامل بين القطاع العام والخاص والمجتمع المدني عبر تشجيع الابتكار الاجتماعي وصياغة آفاق مبتكرة لتفعيله وتعزيز المشاركة المجتمعية.
أولت المملكة الأردنية الهاشمية اهتماماً بالمسؤولية الاجتماعية وخطوات سريعة في سن الأطر التشريعية والحرص على بناء المسؤولية الاجتماعية للشركات، وقدمت مبادرة نوى المنصة الوطنية لتنمية الأثر الاجتماعي المشترك نموذجاً تطبيقياً لإحدى فروع المسؤولية الاجتماعية، على الجانب الآخر ألزمت البورصة الأردنية 20 شركة مدرجة في عينة الرقم القياسي ASE20 بتزويد تلك الشركات البورصة الأردنية بتقديم تقرير الاستدامة السنوي في قواعد تقديم البيانات الصادرة عن البورصة، وذلك من خلال نظام الإفصاح الإلكتروني XBRL، إلى جانب التزام كثير من القطاعات والهيئات الحكومية بممارسات المسؤولية الاجتماعية.
أما في قطر فقد أنشئ البرنامج الوطني للمسؤولية الاجتماعية هو مبادرة أكاديمية رائدة تستضيفها جامعة قطر سنوياً بالشراكة مع الوزارات والهيئات الحكومية وغير الحكومية، والأكاديمية والمؤسسات متعددة الجنسيات وقطاع الأعمال. ويشمل البرنامج أنشطة أكاديمية مثل دراسات بحثية، ورش عمل، دورات تدريبية، محاضرات، مسابقات طلابية، وجوائز تقديرية للمنشآت الرائدة في المسؤولية الاجتماعية، إلى جانب استضافة قطرإلى المعرض الدولي للمسؤولية الاجتماعية الذي يتم تنظيمه بالتوازي مع تدشين التقرير السنوي للمسؤولية الاجتماعية.
نظرة أعمق على استراتيجيات المسؤولية الاجتماعية العربية
نلاحظ مما تقدم أن الدول العربية بدأت الاهتمام بسن منظومة متكاملة لاستراتيجيات المسؤولية الاجتماعية المستدامة ذات الأثر القابل للقياس، وذلك عن طريق الهيئات التشريعية المتخصصة بالمسؤولية الاجتماعية واعتبار ممارسات المسؤولية الاجتماعية رافداً مستداماً للمساهمات المجتمعية للشركات وهيئات القطاع العام التي تعمل على حل التحديات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية بنظام حوكمة عال الدقة والكفاءة، كما وأسهمت بنشر الوعي لصناع القرار في القطاع الخاص بأهمية المسؤولية الاجتماعية المستدامة والعمل على تبنيها دائماً كهوية أساسية للشركة مما يُعْطَى قيمة إضافية للعلامة التجارية، ويسهم في زيادة واستدامة الإنتاجية.
أوضح التقرير السنوي للمسؤولية الاجتماعية للشركات لعام 2022 الذي اجري في منطقة ا الخليج العربي ما يلي:
• 60% من العلامات التجارية في السوق الإماراتي ازدادت مبيعاتها وارتباط المستهلكين بها حين تطبيقها للممارسات المسؤولية الاجتماعية.
• 52% من العلامات التجارية في السوق السعودي ازدادت ثقة عملائها بعد تبنيها ممارسات المسؤولية الاجتماعية.
• 80% من أصحاب القرار في العلامات التجارية على استعداد لزيادة نشاطاتهم في المسؤولية الاجتماعية المستدامة باستمرارية على المدى الطويل واعتبارها هوية للعلامة التجارية في حال كانت هذه الممارسات تعطي تأثيراً إيجابياً في المجتمع والأرباح على الشركة.
مفهوم التطبيقات العملية للمسؤولية الاجتماعية
تطبيقاً تعد المسؤولية الاجتماعية هي القيمة العامة المضافة التي تعمل الشركات والمنشآت أما على تبينها لخدمة المجتمع التي تعود بالنفع المادي والمعنوي على الشركة والمنشأة، يتم ذلك عبر القضية التي تتبناها هذه الشركة، وتسهم في حلها، تشارك هذه المساهمة في حل هذه القضية، مما يعني بأن هناك مستفيد، أسهمت هذه المبادرة للمسؤولية الاجتماعية في حلها، لذلك ازداد ارتباط هذا المستفيد بهذه الشركة، وكلما كانت المسؤولية الاجتماعية أكبر كلما ازداد عدد المستفيدين، ولذلك ازداد تميز هذه العلامة التجارية وتباعاً زادت العوائد الربحية.
فئات المسؤولية الاجتماعية
الجدير بالذكران ممارسات واستراتيجيات المسؤولية الاجتماعية تندرج نظرياً تحت ثلاث فئات أساسية وهي:
1. اجتماعية
وهي القضايا الاجتماعية التي يعمل برنامج المسؤولية الاجتماعية على حلها، ويندرج تحتها كثير من الفئات الفرعية من وأمثلتها:
• برنامج تطوير الموظفين وبيئة العمل.
• التطوع
• التبرع
2. اقتصادية
وهي القضايا الاقتصادية التي يعمل على حلها برنامج المسؤولية الاجتماعية للشركات، ويندرج تحتها كثير من الفئات الفرعية من وأمثلتها:
• تبني أخلاقيات العمل والحوكمة.
• البرامج الصحية
• الاستثمار الرياضي
3. البيئية
وهي القضايا الاقتصادية التي يعمل على حلها برنامج المسؤولية الاجتماعية للشركات، ويندرج تحتها كثير من الفئات الفرعية من وأمثلتها:
• ممارسات الاستدامة مثل تقليل انبعاث ثاني أكسيد الكربون في الصناعة.
• التشجير
• تقليل استخدام المواد غير القابلة للتدوير
عمليات التشغيل للمسؤولية الاجتماعية
تشغيلياً قد تكون ممارسات المسؤولية الاجتماعية منفصلة عن العمليات التشغيلية الخاصة بالشركة او المنشأة فمثلاً قد تتبنى الشركة قضية اجتماعية مثل التوعية بمرض معين أو تمكين رواد الأعمال، بينما تقوم شركة أخرى بدمج مسؤوليتها الاجتماعية في عملياتها التشغيلية، فمثلاً تتبنى الشركة قضية بيئية ، وهي بان تتعهده هذه الشركة إلى تخفيض نسبة ثاني أكسيد الكربون المنبعثة نتيجة لعملياتها التصنيعية، فيما تقوم شركة أخرى بانتهاج المبدئين وهكذا فإن لكل شركة خصوصيتها في بناء استراتيجيتها الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية.
لذلك يراعى عند صياغة استراتيجية المسؤولية الاجتماعية للشركة بأن تتطابق الفئة او الفئات التابعة للمسؤولية الاجتماعية التي يتم العمل عليها بأن تكون متوافقة مع سياسات واستراتيجيات الشركة للقضية او القضايا التي يعالجها نظام المسؤولية الاجتماعية المعتمد.
يضاف الى ذلك العمل ضمن نظام تشغيلي محوكم يتطابق مع الميزانية المخصصة لاستراتيجيات المسؤولية الاجتماعية بمعايير أداء رئيسية تأخذ بعين الاعتبار قياس العوائد الربحية وقياس العوائد الاجتماعية ومطابقة الاستراتيجية العامة للمسؤولية الاجتماعية للمعايير العالمية لتقارير المسؤولية الاجتماعية واهداف التنمية المستدامة، على ان تكون الضوابط الأساسية للاستراتيجية متطابق مع نظام تقارير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) على نظام تشغيل تقني، من ثم صياغة الإدارة التسويقية المستدامة التي تضمن وصول فعال لمبادرات المسؤولية الاجتماعية الى أصحاب المصلحة المعنين سواءً كانوا عملاء او منافسين او حكومة او مستثمرين من خلال صياغة استراتيجية التسويق والتواصل المناسبة والفعالة للإفصاح عن الاستراتيجية الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية ، تأتي في نهاية الحلقة التشغيلية تقديم تقارير المسؤولية الاجتماعية وقياس الأثر والتعديل.
الوعي بركائز المسؤولية الاجتماعية لتحقيق الاقتصاد المستدام
نشير هنا الى أربع نقاط مهمة لزيادة الوعي بمفهوم المسؤولية الاجتماعية
1. حصرها في التبرعات
ممارسات المسؤولية الاجتماعية لا تنحصر في كونها نظام تبرعات او نظام يشغل من غير عوائد مادية او انها تنحصر في شهر معين مثل شهر رمضان الذي تكثر فيه ممارسات المسؤولية الاجتماعية عن طريق مبادرات التبرع او التطوع، وبعدها تقف معظم الشركات بعدها عن الاستمرارية في تطبيق استراتيجية المسؤولية الاجتماعية واعتماد استراتيجية ثابتة ومستمرة للمساهمة في حل قضية معنية.
2. نوع من أنواع الاستثمار اجتماعي
تكمن النقطة الأساسية قبل اعتماد الانضمام الى استراتيجيات المسؤولية الاجتماعية الى فهم الاحتياج الضروري للشركة لتبني المسؤولية الاجتماعية وممارسات الاستدامة ، لان استراتيجيات المسؤولية الاجتماعية تعتبر استثمار مستدام للشركة ، يساهم في زيادة أرباحها واستدامة أصولها مثله مثل أي استثمار اخر للشركة ولكنه يختلف عنه بأنه يبنى على الموازنة ما بين العوائد الربحية على الاستثمار (ROI) وبين العوائد الاجتماعية على الاستثمار (SROI) ، والعوائد الاجتماعية على الاستثمار تحول بعد فترة متوسطة الى طويلة المدى الى أصول مادية مستدامة وذلك نتيجةً للتحول في طبيعة العملاء الحاليين عن المستقبلين وغيرها من العوامل .
3. تطبيق الحوكمة
الحوكمة هي تعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة والمسؤولية والعدالة واخلاقيات العمل، وهذا ما يجب تطبيقه على جميع سياسات الشركة وخصوصاً سياسة المسؤولية الاجتماعية، التي يجب ان يراعى فيها النزاهة في جميع المراحل، ولان بعض فئات استراتيجية المسؤولية الاجتماعية تتم بعمل الشراكات لدعم قضية معينة ما بين الشركة التي أنشأت استراتيجية المسؤولية والطرف الثاني المشغل لذلك توجب الحكومات او حتى أصحاب المصلحة من الملاك و المستثمرين والعملاء من ان يكون الطرف الثاني الشريك في المسؤولية الاجتماعية معرف ويحظى بثقة ويطبق هو ايضاً نظام حوكمة مقيد من أي نوع ترهل اداري او فساد.
4. عنصر الاستدامة
عنصر الاستدامة في المسؤولية الاجتماعية يطبق على ثلاث مفاهيم ، الأول بكون القضايا التي تعالجها استراتيجية المسؤولية الاجتماعية هي نفس الأهداف التنموية السبعة عشر الخاص ببرنامج الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، والثاني بكون استراتيجيات المسؤولية الاجتماعية هي نوع من أنواع الاستثمار الاجتماعي الذي يقدمه القطاع كرافد للاقتصاد فيجب ان يتم بصورة مستدامة أي انه لا يجب ان يتوقف، والثالث بكون المصادر والأصول والتشغيل والنتائج وغيرها لاستراتيجية المسؤولية الاجتماعية يجب ان تكون مستدامة لتقليل الهدر المادي في التشغيل او الهدر البيئي في المصادر والأصول.
التوصيات
نوصي في ختام هذه المقالة ببناء منظومة للمسؤولية الاجتماعية المستدامة تقوم برسم السياسات العامة وبناء البنية التحتية واعتماد التشريعات اللازمة وسن الأطر التنظيمية والقوانين المرجعية وطريقة تفاعل المشاركين وآليات التشغيل بطريقة مستدامة ، يجتمع في هذه المنظومة افقياً ثلاث جهات رئيسية من أطراف المصلحة، الأولى الجهة المنظمة والمشرعة للمرجعيات وغالباً تكون هيئة مستقلة او تابعة لقطاع حكومي ،ثانياً أصحاب القرار في القطاع الخاص والذين يعملون على التشغيل الفعلي لاستراتيجيات المسؤولية الاجتماعية ضمن شركاتهم ، ثالثاً النظام الإداري التشغيلي سواءً كان بالخبراء او بالنظام الابتكاري التقني القابل للتفعيل والقياس يتناسب مع طبيعة وهوية الدولة المشغلة على ان يؤخذ بعين الاعتبار الاستفادة من النماذج العالمية الناجحة والمعايير الدولية والداخلية للمسؤولية الاجتماعية.