تجسد شركة “سبينس” أحدث النماذج والمواضيع الساخنة في سوق الإمارات العربية المتحدة، حيث شهد الإدراج زيادة في الاكتتاب بمعدل 64 مرة، أي ما يعادل 24 مليار دولار، ويعزى ذلك إلى عوامل عدة مثل القصة الاستثنائية للعلامة التجارية، وهوامش ربح هائلة إلى جانب التقييم المقنع. ولكن بالرغم من هذه الأرقام وهذا الزخم، إلا أن تداول الأسهم اليوم بالكاد يصل إلى نسبة 5% فوق سعر الاكتتاب.
لا يتفرد سبينيس في إثارة الأسئلة من المستثمرين والمصدرين للسندات، فمما لا شك فيه أن الأسس الاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي قوية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يعتبر أداء أسواق الأسهم خادعاً نسبياً؟ للمقارنة، بلغ متوسط الأداء السنوي المرجح للأسواق الإقليمية منذ عام 2022 أقل من 3%، أي نصف أداء مؤشر ستاندر آند بورز وعشر مرات أقل من ناسداك. إذاً ما هي الظروف التي تلقي بظلالها على أسواقنا، وكيف تتأثر بالقضايا العالمية الحالية؟
عالمٌ قاسٍ
بنظرة شاملة للعالم نكتشف العديد من التوترات الكامنة، أولها الجانب السياسي، حيث أدى غزو أوكرانيا إلى تعطيل التجارة والتدفقات الرأسمالية والبشرية، حيث كان ينبغي للحرب أن تنتهي في لحظات، لكنها لا تزال مستمرة، وبدلاً من ذلك حل الألم في غزة محل الحرب الخاطفة الفاشلة حتى الآن، والتي جعلت منطقة الشرق الأوسط عرضة للتهديد حيث يتسلط “سيف ديموقلس” على رقبة المنطقة. ومرة تلو الأخرى، يعود التهديد بغزو تايوان إلى الواجهة لينشر المزيد من المخاوف والقلق. تأتي كل هذه الأحداث وسط حالةٍ من عدم الاستقرار السياسي الناجم عن الانتخابات المتوقعة عالمياً في ما يقرب من 64 دولة، حيث سيصوت أكثر من نصف سكان العالم لصالح التغيير، والجميع يراقب كيف يمكن للسياسة العالمية أن تعرقل النظام. وفي خضم ذلك، هنالك الكثير من الأسئلة المطروحة، ولكن الإجابات تبدو قليلة جداً.
ثم يأتي موضوع الاقتصاد العالمي، حيث تبحث الصين عن مسار جديد نحو النمو، بينما تحاول خفض تأثير فقاعتها العقارية، ودعم القطاع الصناعي فيها لتكاد تصبح أكبر مصدر للسيارات على مستوى العالم، ليأتي الرد الأمريكي بفرض تعريفات جمركية أعلى من أي وقت مضى، مما يزيد من زعزعة التجارة. في غضون ذلك، يتساءل الأكاديميون أين ذهبت الدورات الاقتصادية، أو إلى متى سيستمر الاقتصاد في حالة الاعتدال التي نشهدها. وكان سرد أسعار الفائدة “الأعلى لفترة أطول” يثير مخاوف الأسواق لأنه يطرح المزيد من الأسئلة عوضاً عن الإجابة عنها.
ومع وجود كل هذه العوامل، يتوقع المراقبون حدوث تصحيح في السوق. وبدلاً من ذلك، فإن السوق الأمريكي يواصل صعوده الملحوظ. وفي حين تشهد فيه التقييمات ارتفاعاً متواصلاً، فإن المراقبين يصفونه بأنه مجرد ذوبان. وفي خضم قصة تجري أحداثها في عالمين مختلفين، فإن الأسواق الناشئة لا تزال متخلفةً عن ركب الأسواق المتقدمة، بما في ذلك أسواقنا.
المعجزة الاقتصادية في الخليج والشرق الأوسط
على الصعيد الاقتصادي، تشهد دولة الإمارات العربية المتحدة والمنطقة أداء اقتصادياً مثالياً، وفي الوقت الذي تشير فيه التوقعات إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي في دولة الإمارات العربية المتحدة بنسبة 4.2% هذا العام، تتمنى دول المنطقة بلوغ هذه المعدلات في ظل الارتفاع الحالي في أسعار النفط. إن التوجهات الحكيمة في الإنفاق على البنية التحتية هو المشهد السائد حالياً في كافة مدن المنطقة من جدة وحتى مسقط، حيث تطمح كل مدينة في الشرق الأوسط الآن إلى مزيد من الانفتاح ومواكبة التوجهات والتطور العالمي، أما في السعودية، تعمل البنوك جاهدةً لمواكبة احتياجات التمويل لمشاريع البنية التحتية المحلية.
أضافت طفرة الاكتتاب العامة التي تشهدها المنطقة أكثر من 200 مليار دولار إلى رؤوس الأموال المتاحة للاستثمار في دولة الإمارات العربية المتحدة وحدها منذ العام 2021، ومن المتوقع أن تستمر على هذا النحو، مع الإعلان عن 29 طرحاً أولياً على المستوى الإقليمي هذا العام. وعلى الجانب الآخر، بدأت أسعار العقارات ملامسة مستوياتها السابقة، وبرزت مجدداً المشاريع قيد الإنشاء لتعود إلى ما كانت عليه في العام 2008 متزامناً مع إعلان المطورين العقاريين تسجيل مستويات قياسية من حيث أحجام المبيعات والمعاملات، في المقابل تواصل البنوك توسيع ميزانياتها العمومية، بينما تواصل أرباح الشركات المدرجة في تحقيق أرباح كبيرة ربعًا بعد ربع.
نحن نشهد ازدهار أبوظبي ودبي بالتأكيد، بغض النظر عن الضجيج الاقتصادي والسياسي المحيط، حيث تحقق دبي أداءً استثنائياً في ظل هذه الظروف التي تعاني فيها أسواق أخرى بشدة، بينما رسخت أبوظبي على الجانب الآخر، مكانتها التي عُرفت عنها بأنها “عاصمة رؤوس الأموال”، إذ تواصل جذب رؤوس الأموال وعمالقة التمويل إليها، لتتحول المدينتان بفضل هذه الظروف إلى محورٍ لجذب المواهب البشرية والشركات والمهاجرين ورؤوس الأموال، ويرتفع مستوى طموحهما نحو “تحقيق المزيد”. ورغم ذلك، فإن أسواق الأوراق المالية التي ينبغي أن تعكس نقاط القوة الأساسية هذه، تتراوح مكانها ولا تفعل شيئاً، وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا؟
الأسواق المالية في الخليج والعالم تروي قصة مغايرة
لكي تكتمل الصورة وبهدف الحصول على منظور أكثر شمولية، عكفنا على مقارنة أداء أسواق الأوراق المالية الإقليمية مع نظيرها في الولايات المتحدة، حيث إن الأداء المختلط لمؤشرات الأسهم الإماراتية يبدو واضحاً للعيان، حيث تمكن من تسجيل انتعاش ملحوظ بلغ 61% خلال العام 2021 بعد انقشاع آثار أزمة كوفيد التي ضربت أركان الاقتصاد العالمي، ومن ثم شهدت وتيرة النمو تباطؤاً نسبيا إلى نسبة 17% في العام التالي 2022، وكان العام 2023 الذي شهد استقراراً في معدل الانتعاش مقارنة بالعام الذي سبقه، بداية الطريق نحو النتائج المخيبة للآمال في العام 2024. وفي الوقت الذي تمكنت فيه الاقتصادات الإقليمية من إبراز المزيد من مكامن قوتها، فإن أسواق الأسهم فيها سارت على نهج المؤشرات الأمريكية التي شهدت ضعفاً في أدائها. ورغم أن المقارنة الأكثر تفضيلاً ينبغي أن تكون مع الأسواق الناشئة، فإن أداء أسواقنا كان مخيباً للآمال بسبب أن أداء أسواق الصين يسجل تعافياً ملحوظاً متماشياً مع توقعاتنا، بغض النظر عن كونها أحد الأسباب الرئيسية في الضعف الذي صاحب أداء الأسواق الناشئة خلال الفترة الماضية، فيما لم تتمكن أسواقنا الإقليمية من اللحاق بمواكبة هذا التعافي الملحوظ.
وهنا نشدد على رؤيتنا التي حددنا فيها أن أسواقنا صغيرة الحجم نسبيا، إذا ما قارنّاها بحجم الاقتصادات الناشئة إجمالاً، وعلى هذا النحو، فقد كنا متفوقين بشكل أساسي من حيث الأداء الاقتصادي، بيد أن أسواقنا تسبح عكس ذلك التيار، بينما يبدو أن ذلك هو السبب الكامن وراء سعي كافة الجهات التنظيمية في المنطقة لإعادة تصنيف مؤشراتها وبورصاتها ضمن فئة الأسواق المتقدمة، عوضاً عن اعتبارها ضمن فئة الأسواق الناشئة أو الواعدة.
علينا الاعتراف بحقيقة أن الصراعات والتوترات الإقليمية قد أثارت بالفعل مخاوف المستثمرين، فعندما وصلت أعداد كبيرة من الروس والأوكرانيين إلى الدولة، شهدت مختلف القطاعات انتعاشاً ملحوظاً، بداية من انكبابهم نحو شراء العقارات، مروراً بشغلهم المقاعد الشاغرة في المدارس واصطفافهم بالمتاجر والمحلات التجارية، انتهاءً بمساهمتهم في ازدياد الازدحامات المرورية على الطرق، وهو أمر إيجابي بطبيعة الحال، ولكنهم لم يسهموا حتى الآن في إحداث تغيير كبير فيما يتعلق بأداء أسواق الأسهم والمؤشرات المالية، وهو ما يمكن تفسيره بالقول إنه وعندما لاذ المستثمرون الدوليون فارّين برؤوس أموالهم من الأسواق المالية في كل من روسيا والصين، فإن ذلك الأمر ألقى بظلاله السالبة على أسواقنا التي نعتبرها وفقاً لمنظورنا “ثانويةً” فقد تخلصوا من أسواقنا الثانوية أيضاً، لتتلاشى مع تلك الموجة أهمية الأسواق المالية الإقليمية كونها لا تزال ضمن فئة الأسواق الناشئة.
مواكبة نبض الأسواق
وعلى الرغم من كل الصعاب التي نواجهها، فإن العالم يلقي بظلاله السالبة علينا، فنحن لسنا بمعزلٍ عما يدور من أحداث. ستشير منحنيات الأداء إلى علاقة عكسية بين مؤشراتنا المالية والارتفاع المتواصل لأسعار الفائدة، حيث تحمل أسواقنا عبئاً يثقل كاهلها على نحوٍ غير عادل. والآن ربما يجري تصعيدنا لفئة الأسواق المتقدمة، وهو ما سيؤدي إلى بلوغنا مستوى نجني فيه فوائد وأرباح غير مسبوقة بالتزامن مع سعي المستثمرين الدوليين لجني ثمار استثماراتهم. ورغم ذلك لا يزال الطريق أمامنا طويلاً، وينبغي علينا بلوغ أهدافنا من خلال التركيز على الوسائل التي تقودنا إليها.
لن تتحقق أمنيتنا بامتلاك أسواق أكبر حجماً وقيمةً وأكثر انتعاشاً، سوى بتوفيرنا البنية التحتية المطلوبة، ومعايير الشفافية اللازمة والاستدامة وإمكانية الوصول والقواعد التنظيمية الراسخة. وفي غضون ذلك، تواصل الأسواق الإقليمية تداولاتها ضمن مستويات معقولة، وما زال المستثمرون ممن يتحلون بالصبر، يجنون فوائد كبيرة منها.