لا يمكن الإشارة إلى السياحة التجريبية على أنّها مجرد اتجاه عابر، فهي في الواقع حركة تحويلية تُحدث ثورة في الطريقة التي نستكشف بها العالم. فما بين الانغماس في جمال الطبيعة وبين التعمّق في قلب الوجهات التي نزورها، يكمن جوهر السياحة التجريبية في قدرتها على الإبهار والإلهام والتنوير وتقديم مرئيات عميقة.
وفي المملكة العربية السعودية تحديدًا، اكتسبت هذه الحركة زخمًا بارزًا، لا سيّما مع تطوير المملكة مشاريعًا بارزةً مثل نيوم، والعلا، ومشروع البحر الأحمر. وقد أتاحت هذه المشاريع لزوّار المملكة فرصة الضلوع بتجارب مبتكرة، ولبّت كذلك احتياجات سوق السياحة المتنامي، مع التركيز بشكل خاص على مبادرات الاستدامة لجذب المسافرين المهتمين بالبيئة. فحسبما أوردت أحدث المعطيات من مؤتمر بيج 5 سعودي كونستراكت، تنفذ المملكة العربية السعودية حاليًا أكثر من 255 مشروعًا بقيمة إجمالية تبلغ 1.7 تريليون دولار أمريكي، وذلك في إطار جهودها لإعادة تشكيل المشهد العام للبلاد، مع التركيز بشكل خاص على تعزيز البنية التحتية للسفر والسياحة.
أهداف كبيرة ومشاريع عملاقة
وكانت المملكة قد نصّبت لنفسها في إطار خطة رؤية 2030 التي وضعتها في العام 2016 هدفًا طموحًا يتمثّل باستقبال 100 مليون سائح، إلّا أنّها سرعان ما عدّلت هذا الهدف ورفعته إلى 150 مليون سائح سنويًا بحلول نهاية العقد. وقد كانت نتائج هذه الجهود هائلة إذ في غضون 5 سنوات فقط من فتح أبوابها أمام السياح، برزت المملكة العربية السعودية كواحدة من أسرع أسواق السياحة نموًا في العالم، لتتجاوز بذلك جميع التوقّعات وترسي معاييرًا جديدة للنمو. وفي العام 2023، استقبلت البلاد 27 مليون سائح أجنبي، متجاوزة هدفها الأصلي بنسبة تزيد عن 100%. جدير بالذكر أنّ هذا النمو المتسارع لم يظهر أي علامات تباطؤ بعد، بحيث ارتفعت أعداد السياح بنسبة 10% وازداد الإنفاق السياحي بنسبة أكثر من 17% في الربع الأول من العام 2024.
أمّا عن مشروع البحر الأحمر، فيدعو المسافرين لاستكشاف الجمال الهادئ للجزر البكر، ما يشجع على التواصل العميق مع الطبيعة ويجسد جوهر الانغماس الحقيقي. وتركّز هذه التجربة الفاخرة والواعية بيئيًا على جهود الحفاظ على البيئة، وتقدّم مجموعة من الأنشطة الممتعة مثل الغوص، ما يتيح للضيوف الانغماس الكامل في التنوع البيولوجي البحري الاستثنائي الذي تزخر به المملكة. وانطلاقًا من كمّ الاستثمارات التي تمّ صرفها للمشروع، بما في ذلك توقيع 1,000 عقد بقيمة إجمالية تزيد عن 6.7 مليار دولار أميركي، يعد المشروع عنصرًا محوريًا في مبادرة رؤية 2030.
في المقابل، يتجلّى البحث عن الإلهام في العلا بوضوح، وذلك لكون هذا المشروع أوّل المشاريع التي تفتح أبوابها رسميًا للسياح. تدمج هذه الوجهة بسلاسة ما بين التراث العريق والفخامة المعاصرة، ما يتيح للزوار السفر في رحلة عبر الزمن والانغماس في نسيج غني من التاريخ والفخامة. جدير بالذكر أنّه تمّ استثمار مبلغ 15 مليار دولار أميركي على مشروع العلا، وذلك لمنح الضيوف فرصة السفر في “رحلة عبر الزمن” من شأنها أن تُحدث ثورة في تجربة السفر.
على صعيد آخر، يقع الاستكشاف في قلب المشهد الثقافي والترفيهي في المملكة العربية السعودية، حيث تستضيف البلاد مجموعة متنوعة من الفعاليات المرموقة التي تهدف إلى جذب الجماهير من جميع أنحاء العالم. فما بين مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي والاحتفالات المفعمة بالحيوية بموسم الرياض، وسباق جائزة السعودية الكبرى، توفر المملكة مجموعة متنوعة من التجارب التي تسعى إلى إحداث تأثير دائم. ومع ذلك، فليس الزوار الدوليون وحدهم من ينجذب إلى سحر المملكة، إذ حسبما كشفت أحدث البيانات الصادرة عن منصة ويجو للسفر، ثمة اهتمام متزايد بين سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعيش تجربة ثقافية أصيلة. واعتبارًا من يوليو 2023، احتلت المملكة باستمرار المركز الأول في “قائمة أمنيات” السفر الخاصة بويجو، ما يشير إلى رغبة قوية بين سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في اكتشاف تراث المملكة الغني وعروضها الديناميكية.
وكما يتّضح من الجهود التي تبذلها المملكة لتنفيذ المشاريع السياحية كمشروع القدية بالقرب من الرياض، تحتلّ البصيرة حيزًّا حاسما في جهود المملكة لتعزيز قطاعها السياحي، لا سيّما وأنّه من المقرر أن يصبح هذا المشروع الطموح مركزًا رائدًا للترفيه والرياضة، ويقدم منظورًا فريدًا للمشهد الثقافي المتغير في السعودية. ومن خلال دمج الفنون والرياضة والترفيه بسلاسة، يقدم المشروع نظرة أعمق للطبيعة الديناميكية التي يمتاز بها المجتمع السعودي. وتشير التقارير المحلية إلى أن الاستثمار في هذا المجمع الترفيهي والرياضي والثقافي الضخم يقّدر بنحو 10 مليارات ريال سعودي (حوالى 2.7 مليار دولار أميركي)، مع وجود عقود بناء قائمة بالفعل.
معايير جديدة لقطاع السياحة التجريبية
لا يسعنا سوى الاعتراف بأنّ المملكة في الواقع تحتل سلم ريادة قطاع السياحة التجريبية، حيث باتت ترسي معايير جديدة للقطاع. وتتضمن استراتيجية التفكير المستقبلي التي تتبنّاها المملكة مجموعة واسعة من العروض التي تتجسّد على هيئة مشاريع طموحة مثل نيوم، والقدية، ومشروع البحر الأحمر. وتهدف هذه التطويرات واسعة النطاق إلى جذب الجماهير الدولية من خلال عرض الجمال الطبيعي للمناظر الطبيعية في المنطقة والتراث الثقافي الغني، وتوفير تجارب مغامرة وترفيه لا مثيل لها. وعلى عكس المنتجعات الفاخرة التقليدية، فإن هذه الوجهات تتجاوز المألوف، حيث يتمتع كل منها برونق وسحر فريد. ومن خلال الابتعاد عن السياحة الحضرية التقليدية، تستفيد المملكة من المساحات الشاسعة في صحاريها وسواحلها لتوفّر لزوّارها المغامرين الذين يبحثون عن مغامرات أصيلة في قلب الطبيعة والثقافة عالمًا من الإمكانات اللامحدودة.
أخيرًا، يشير التزام المملكة العربية السعودية بالسياحة التجريبية على النحو المبين في رؤية 2030 إلى ضلوعها في تحوّل استراتيجي نحو توسيع فرصها الاقتصادية وإثراء حياة كل من المقيمين والزوار. ومن خلال تطوير المشاريع التي تسلّط الضوء على مناظرها الثقافية والطبيعية الفريدة، تسعى المملكة العربية السعودية إلى تعزيز الروابط الهادفة التي يتردد صداها عالميًا. ولا يؤدي هذا النهج الشامل إلى تعزيز السياحة فحسب، بل يشجع أيضًا مشاركة المجتمع، ويحافظ على التقاليد المحلية، ويدعم التنمية المستدامة. هذا ويعتمد التكامل الناجح للسياحة التجريبية في المملكة العربية السعودية على ركائز الانغماس والإلهام والاكتشاف والبصيرة. ومن خلال إيلاء الأولوية لهذه المبادئ، تطمح المملكة إلى أن تكون بمثابة منارة لمنطقة الشرق الأوسط الكبير وخارجه، فتثري بذلك فهمها وتقديرها للأثر التحويلي للسياحة.
تعتبر ركائز الانغماس والإلهام والاكتشاف والبصيرة ضرورية للتنفيذ الناجح للسياحة التجريبية في المملكة العربية السعودية. ومن خلال إعطاء الأولوية لهذه المبادئ، تهدف المملكة إلى أن تكون قدوة للشرق الأوسط الكبير وخارجه، وتعزيز فهم وتقدير أعمق للأثر التحويلي للسياحة.