الرؤساء التنفيذيون الناجحون هم أصحاب الرؤى المستقبلية، وليس الأشخاص الشعبويين غير المنظمين
يتحدث راندال بيترسون، أستاذ السلوك التنظيمي والمدير الأكاديمي لمعهد القيادة في كلية لندن للأعمال، عن أهمية القيادة الناجحة بدلا من النماذج الشعبوية التي تملك ترف الاستخفاف بالأمور الأساسية
يمكن الحديث عن إيلون ماسك بلا انقطاع، ووصفه بأجمل ما قد تجود به الأفكار من صفات، فنحن نستطيع أن نقول عنه بأنه شخص واسع الثقافة والمعرفة، وينتمي للمستقبل، بل ويمكننا القول بأنه مؤلّف من نوع ما. وهذا الأمر يساعد على تكوين فكرة متماسكة ومقنعة للغاية ترسم له صورة محددة في أذهاننا جميعًا.
ولكن هل نستطيع أن نطلق عليه بحق لقب “قائد أعمال عظيم”؟ ماسك، وبحسب كلامه، لا يؤمن كثيرًا بالدور الذي يلعبه الرئيس التنفيذي في الشركة، وقد عبر عن ذلك صراحة أثناء مشاركته مؤخرًا في مجلس الرؤساء التنفيذيين لصحيفة وول ستريت جورنال، إذ قال بأن منصب “الرئيس التنفيذي” هو مجرد “منصب مختلق”، وأن العديد من المناصب في الشركات “لا يوجد لها أي معنى حقيقي”. ولا شك بأن الأسلوب التهكمي الذي يمتاز به ماسك هو أمر فريد من نوعه بشهادة جميع موظفيه، حتى وفقًا لقانون القادة الأقوياء والمثيرين للجدل في الوقت نفسه، مثل ستيف جوبز، ولاري إليسون، وروبرت مردوخ، ومارك بينكوس.
وقد لاقت كل خطوة جريئة اتخذها ماسك للذهاب إلى حيث لم يجرؤ أحد قبله، جدلًا كبيرًا بين مستحسن ومستنكر. ويمكننا أن نذكر الكثير من تلك الخطوات، من رسائل البريد الإلكتروني والتصريحات غير الحكيمة التي تثير قلق الموظفين والمستثمرين على حدٍّ سواء، بل وحتى المعجبين به. وعلى الرغم من أنه قد لا يختلف عن الشخصيات العامة السابقة الأخرى، إلا أن تصريحاته الجريئة تجذب الأشخاص الذين يحبون الآراء النارية والقوية.
وفي حقيقة الأمر فإن معظم الرؤساء التنفيذيين يتسمون بأنهم واضحون للغاية، ويمكن التنبؤ بهم، وهذا هو السبب الذي يجعلهم جيدين في أداء وظائفهم. ولا يعني هذا الأمر أنهم لا يتمتعون بمخيلة مستقلة أو أنهم من مناصري الصيغ الثابتة، التي كانت جيدة في يوم من الأيام، لكنها قد تفشل في ظل ظروف السوق المتغيرة.
وإذا أخذنا الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال، فإن نموذجها قام تاريخيًا على استثمار الوقت في بناء علاقات عمل تسهل التغيير وتدعم الإبداع. وعلى الرغم من أن عادات العمل يمكن أن تختلف قليلاً بين شركة وأخرى، إلا أن القادة هنا هم على الأغلب متاحون بشكل دائم، ويفضلون إبقاء القنوات معهم مفتوحة من خلال نهج الباب المفتوح المنتشر على نطاق واسع هنا. وتعد الثقة عنصرًا متجذرًا في الثقافة العربية في منطقة الشرق الأوسط، ويسترشد الناس عمومًا بمبادئ القرآن الكريم، ولهذا نراهم يحترمون ثقافتهم ويحافظون على تقاليدهم وعلاقاتهم القيميّة.
ومن الواضح أن هذه الثقافة القديمة تؤتي ثمارها في عصر التجارة الإلكترونية، حيث من المتوقع أن تتفوق الإمارات العربية المتحدة على المملكة المتحدة في تبني التجارة الإلكترونية مع اختيار المزيد من الشركات تأسيس حضور لها عبر الإنترنت. وجدير بالذكر أن سوق التجارة الإلكترونية في الإمارات العربية المتحدة سجل نموًا كبيرًا في العام الماضي بلغت نسبته 53% ليصل إلى مستوى قياسي بعائدات قيمتها 3.9 مليار دولار في عام 2020، وتشير بيانات غرفة تجارة وصناعة دبي إلى أنه من المتوقع أن يواصل النمو في العام المقبل إلى مستويات أعلى.
وقد أصبحت المنطقة تُعرف بأنها منصة اختبار للتقنيات الجديدة والممارسات التجارية الجديدة، بدءًا من إنترنت الأشياء مرورًا بتقنيات الطائرات بدون طيار، وصولًا إلى التجارة الإلكترونية السحابية، إذ تعد المنطقة حاليًا مركزًا للتبني المبكر للتكنولوجيا والقيادة الفكرية في مجال الأعمال.
وتنطوي هذه القصة التي تبرز في دولة الإمارات العربية المتحدة وجميع أنحاء الشرق الأوسط، على مقومات رائعة للدمج بين القوة الدافعة الإبداعية للسيد ماسك (في أفضل حالاته)، وهيكل ونظام قيم أكثر استدامة.
ويبقى السؤال الأهم، كيف يمكن تحفيز ودعم قيادة ناجحة في عصر يتسم بالتغير المستمر، أو بالأحرى، ما الذي يمكن أن يتعلمه قادة الأعمال في أجزاء أخرى من العالم من قادة الأعمال في العالم العربي؟
إن قيادة شركة ناجحة يعني توفير الأسس لنشر ثقافة تعلّم، تشجع على إثارة الفضول واكتساب مهارات جديدة. وينبغي تشجيع الموظفين على تجربة أفكار وطرق عمل جديدة. ويتوجب على الشركات المبادرة إلى تبني ثقافة مؤسسية تقوم على مفهوم “الفشل السريع والتعلم السريع”، مما يتيح للأفراد استكشاف أفكار جديدة وتجربتها دون الخوف من أي عقاب أو تبعات. فالعمال والقادة على حد سواء، يحتاجون إلى التشجيع والإقدام على التجريب، واختبار سلوكيات وأفكار جديدة. وفي المقابل، يحتاج قادة الأعمال إلى تعديل طريقة تفكيرهم، والاهتمام بتحقيق “معدل النجاح” و”النسبة المئوية للنجاح” بدلاً من الاهتمام بمفهوم “أنت على مستوى أدائك الأخير فقط”. أي على الجميع التركيز على السعي لتحقيق النجاح، بدلاً من الخوف من الفشل.
ومن المهم أيضًا للقادة رعاية التنوع في مؤسساتهم. إذ يسهل على الأفراد تقديم كل ما تجود به “ذواتهم الحقيقية” في العمل، عندما يشعرون بوجود ثقافة سلامة نفسية وروح تعاون. وعندما يتوفر ذلك، يصبح من الممكن بناء ثقافة أكثر مصداقية بين الموظفين وقادتهم على أساس الثقة المتبادلة، ومستوى عالٍ من الشفافية.
وتجد السلامة النفسية أخصب أرض لها في العالم العربي، حيث يدفع الالتزام الديني والأخلاقي القادة إلى استشارة من يعملون تحت قيادتهم قبل ممارسة أي دور سلطوي عليهم. ويبدو أن المدراء في منطقة الشرق الأوسط يتخذون قراراتهم على أساس التميز والصالح العام. وبعد تبني منظور الفريق، يضمن القائد أن تكون قراراته تمثل الصالح العام.
وتعد الثقة ضرورة لا غنى عنها لبناء علاقات عمل جيدة، بغض النظر عن مكان العمل، وهي ليست غريبة عن فرق العمل في الشركات العاملة في منطقة الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن مفهوم الشرف مهم أيضًا، وقد أظهرت الأبحاث أن الإسلام يحض على “الإخلاص والتميز”، الأمر الذي يشجع بدوره على تقديم عمل عالي الجودة.
“إذا عانى جزء من الجسم من الألم، سيشعر سائر الجسم بذلك الألم. وإذا ضعف جانب ما من الجسم، سيقوى جانب آخر للتعويض عن ذلك”. هذا الكلام قاله قائد أعمال يعمل في المنطقة، وهذه الاستعارة صحيحة تمامًا بالنسبة لديناميكيات عمل الفريق في الشرق الأوسط. فالثقة والأهداف الواضحة تشجع أعضاء الفريق على الارتقاء ليكونوا على قدر التحدي، وتقديم المشورة لرؤسائهم في الأوقات المناسبة.
ومن المفاهيم الخاطئة بشأن هذه المنطقة هو أن العمال مضطرون لاتباع قادتهم دون أي تفكير. ووفقًا للتقاليد فمن المتوقع أن يمتثل الأتباع لقرارات قائدهم، إلا أنه أيضًا من المتوقع أن يتشاور القادة بصدق مع أفراد فرقهم قبل اتخاذ القرارات.
ولتلخيص كل ما تكلمنا عنه آنفًا، فإن الإبداع والبراعة التي يتمتع بها قائد أعمال على غرار إيلون ماسك، قد تكون جديرة بالثناء، ولكن بدون ضمان الدعم اللازم من هياكل عمل قابلة للتعديل، وبدون وجود ثقافة إبداعية داعمة، فإن فرص بناء أعمال مستدامة وقابلة للحياة تكون ضئيلة أو حتى غير موجودة مطلقًا.*راندال بيترسون، أستاذ السلوك التنظيمي والمدير الأكاديمي لمعهد القيادة في كلية لندن للأعمال.