”لا وطن لي على الأرض أجد الوطن في السماء. غيمة صوفية عذراء. تمتد ببطئ على أرجاء الأزرق اللانهائي“. الفتاة الفلسطينية التي قالت هذه السطور تروي لأريبيان بزنس الحكاية التي شكّلت الشاعرة فرح شما التي نعرفها اليوم، ومن ستكون هي في المستقبل، ربما.
البدايات
بدأت فرح شما الكتابة من عمر مبكر جداً، حيث كانت في الثالثة عشر من عمرها. هذه البداية كانت محصورة في نطاق القصائد الشخصية وباللغة الإنجليزية تحديداً. وبهذا الخصوص تقول فرح: “كان دوماً لدي حب لهذا الإنطواء والكتابة. وبدأت بنشر هذه الكتابات على موقع “PoetrySoup” الإلكتروني، حتى نشرت أكثر من 250 قطعة”.
وتضيف: “وأنا في السادسة عشر من عمري تعرفت على هند شوفاني (وهي شاعرة فلسطينية معروفة تمتلك مجموعة شعرية تدعى Poeticians) وقمت بالإلقاء لأول مرة. بالطبع كانت التجربة وكأنها من عالم آخر، أن أقف أما الجمهور وحدي وأشعر بذلك الارتباك”.
ولكن هذه التجربة هي التي فتحت الباب أمام فرح شما لتقدم أعمالها الشعرية في العديد من الأمسيات، حتى صارت تعمل أمسياتها الشعرية الخاصة في سنوات دراستها الجامعية.
وهنا تخبرنا فرح: “لاحظت كذلك أنني أحب أن أعرّف عن نفسي كلما سافرت إلى مكان ما عن طريق الإلقاء أو الشعر، حيث شعرت أنه أقوى جزء من نفسي. ووجدت كذلك أن الأمور الأدبية هي أكثر ما يمثلني”.
هذا وإن معظم كتابات فرح شما هي باللغة العربية واللغة الإنجليزية. ولكنها كتبت كذلك بالغة الفرنسية خلال فترة تواجدها في فرنسا. وتبيّن شما بأنها في الحقيقة “لا تملك خطة معينة، ففي كل فترة تشعر برغبة بالكتابة بلغة معينة”.
اتقان فن الإلقاء
تمتلك فرح شما قدرة فريدة جداً على الإلقاء، بالإضافة إلى لغة شعرية جيدة. ولكن هل الإلقاء هو الذي يميزها فعلاً ويكسبها القبول؟
تعترف فرح بأن لديها “ضعف بالكتابة”، وهي تقول في هذا الخصوص: “أنا أعلم أن قوتي هي في الإلقاء على المسرح. أنا واعية تماماً بهذا الأمر. وكثيراً ما يتم الطلب مني أن أرسل القصائد مكتوبة وأرفض ذلك، لأن هذه القصائد لم تكتب بحيث تتم قراءتها بل كتبت من أجل الاستماع لها من خلال تواجدي على المسرح”.
وتضيف: “لكن في نفس الوقت، يمكنني القول أنها عندما يدخل المرء في هذا الأمر ويكون واعياً به، فإنه يبدأ بالشعور بأنه عليه تطوير وتحسين نفسه. ولذلك أشعر أنه هناك تقدماً كبيراً من ناحية اللغة العربية والإنجليزية. ولكن هذه الملاحظة جيدة، حيث أن الناس كثيراً ما يغرها الإلقاء، كما أنهم يظنون أني أملك آراءً سياسة قوية ويسقطون علي أفكاراً وأموراً لست مستعدة لها”.
صورة فرح شما
لا تستجيب فرح شما كثيراً إلى الدعوات التي تصلها اليوم المتعلقة بالحوارات والنقاشات المختلفة، حيث ترى أنها “غير مستعدة لها”. فالصورة التي قد يمتلكها البعض أو الكثير من الناس عنها قد لا تطابق واقعها الحقيقي.
وتعقب فرح على هذا الموضوع بأن “كتاباتي لا تقتصر على موضوع أو على فكرة واحدة فقط. ولذلك توقفت عن الكتابة بأسلوب معين لمدة عام ونصف، مما شكل نوعاً من الغموض. كما أني أحب أن استخدم هذه الأداة”.
وتضيف: “أصبحت أؤمن أنه عندما يصبح لديك صورة رُسمت لك بسبب قصيدة أو قصيدتين فإنه من الممكن جداً استخدام هذا الأمر بطريقة إيجابية. فأحياناً أشعر أنه هنالك موضوع معين أرغب بالتحدث عنه ولكني لا أقدر عليه، وبالتالي يمكن أن أتحدى نفسي وأكتب عنه لأرى النتيجة”.
وهنا تشير فرح شما بأنها ليست تملك فخراً مطلقاً بكل أعمالها، وتضرب مثلاً قصيدتها المصورة “الشيشة” حيث تقول: “أكره هذه القصيدة كثيراً. فبعدما انتشرت شعرت بالندم، حيث أن القصيدة عبارة عن انتقاد للشباب الذين لا يفعلون شيئاً سوى الجلوس في المقاهي. وأنا أنتقد هذا الأمر ولم أحب الدور الذي ألعبه حيث بدأت أسأل نفسي، ما الذي أقوم به؟ هل لمجرد أن أصبح لدي قوة أقوم بتوجيه أصبع الاتهام لعمل قصيدة ما فقط؟ لا أريد هذا الأمر”.
ومن هنا توضح فرح أن هذا سبّب في “تغير أسلوبي وأصبحت أكتب أشياءً متعلقة بي بشكل أكثر، بحيث أني عندما استمع إليها بعد عام أو عامين أشعر بأن لها معنى صادق وتمثل حالة كنت أمر فيها. وهذا الذي اختلف”.
تعود فرح لتؤكد أن الإلقاء هو أقوى شيء تملكه، أي أقوى من اللغة وتمكنها من اللغة. ولكنها تؤكد أنها تعمل على تطوير قدراتها هذه، حيث أنها تتوجه الآن لدراسة المسرح، الأمر الذي لا يقتصر على الإلقاء إنما قد يساعد بحسب قولها “على ألا تلقي، بل أن تعبر عن نفسك بطرق ثانية”.
وتقول فرح: “أشعر حالياً بأني في مرحلة مستمع أكثر من أي شيء آخر. أنا أبحث عن ماهية الأمور التي أريد التحدث عنها وما الذي أريد عمله”.
فرح شما اليوم
عند سؤالنا لها عن تعريفها هي لنفسها، تقول فرح شما: “أنسب الأمور التي يمكنني قولها والتعريف الذي يمكنني وضعه قبل اسمي هو أني “A spoken-word poet” أو شاعرة الكلمة المنطوقة. وهو مصطلح إنجليزي بشكل كبير، لأن هذه الحركة بدأت أصلاً في الولايات المتحدة، وأنا أنتمي إلى هذه المدرسة”.
وتضيف فرح: “أنا أذهب إلى الفعاليات التي تسمى Slam وأشارك فيها بشكل دائم. وبالتالي أنا أناسب تلك الفئة أو المجموعة”.
كما تشير فرح إلى أنها لا تمانع أن تكون شيئاً آخر، وتقول: “الآن أكتب شيئاً مختلفاً تماماً عن أسلوبي في الكتابة، كما أني أفكر بكتابة النثر وليس الشعر، باللغة العربية”.
حوار مع الذات
تعتقد فرح شما أن الوراثة لها دور في انجذابها نحو اللغة والكلمات، وهي تقول: “يوجد شيء أخذته عن والدتي، حيث أنها كاتبة خواطر كذلك وهي تملك احساساً جميلاً باللغة. وقد اكتشفت ذلك مؤخراً حيث لم أكن أعرفه. وهي كثيراً ما ترى الجمال مفيداً”.
وتضيف فرح: “وبالنسبة لي، فإنها محاولة مستمرة، حيث أني لا أقف في مكان ما بل أشعر أنه هناك حاجة للحركة دوماً، أني لا أكتفي. وكثيراً ما انتقد نفسي. وبالطبع يعد هذا الأمر شيئاً سلبياً، فأنا حادة على نفسي بشكل كبير ولا أحب نفسي كثيراً ودائماً ما أشعر بأني أتداعى شيئاً أو ما إلى ذلك. وبالتالي أشعر دوماً بحاجة للتغيير”.
وتقول كذلك: “حتى حقيقة أني أتكلم العديد من اللغات كلٌ أتحدثها بطريقة مختلفة، أي أني لا أتمكن من أي شيء بطريقة قوية جداً، وكل شيء أمر عليه مرور الكرام، وهذه أصبحت شخصيتي. ففي فرنسا أشعر أني كثيراً ما أنتمي إلى فرنسا، وفي البرازيل كثيراً ما أشعر أني أنتمي للبرازيل، وفي ذات الوقت أحكي عن نفسي بأني فلسطينية”.
وتوضح: “أنا ملتقى الكثير من الأشياء. وكنت أتصالح مع هذا الموضوع بأنه لن يكون لدي أفكار ثابتة كثيراً أو هوية ثابتة، بل هي متحركة كثيراً. ولذلك أحب محمود درويش في نهاياته كثيراً، لأني أصبحت أشعر بأنه هو كان كذلك أيضاً، حيث كانت هناك الكثير من العوامل التي تتحدى الصورة التي كان يملكها”.
وتضيف: “ولكني أعتقد أني أخاف أن أصل إلى هذه المرحلة مبكراً، أن أشعر أني لا أملك أي مشكلة أو قضية يمكنني الدفاع عنها”.
وعن الاستقرار الداخلي، تقول فرح: “أنا أواجه الكثير من المشاكل بأني أملك وظيفة يومية وما إلى ذلك. فإني مُتعبة جداً لأني غير مفهومة ومن الصعب أن أرسى، حيث أن الاستقرار لا يجعلني مستقرة”.
وتضيف: “إلا أني أحتاج إلى هذا الشيء لأجل الجانب الفني. ولكن في نفس الوقت، فإن الكثير من الناس يقولون لي بأن علي أن أكون أكثر واقعية وأفكر وأخطط بجدية أكبر”.
وتوضح: “كل هذا متعلق بالتوازن. لا أعرف كيف أوازن الأمور ولكني أشعر بأن الإنسان الواعي بحالته فإن التوازن يجده، لا أنه هو يجد التوازن”.
الجنون والواقعية
عند سؤالنا لها عن الحالة الفنية والشهرة، تقول فرح شما بأنها: “كثيراً ما أكتب أموراً أشعر بأنه يجب ألا يقرأها أحد لأنها سودوية جداً وفيها الكثير من الجنون. ولكني لست أعرف. لا أعلم متى يكون لوجود الفرد قيمة، هل عند موته؟ أو عندما يكون مجنوناً أو أن الأمر متعلق بالشهرة؟”.
وتضيف فرح: “دائماً أجد فكرة شهرتي موجودة عند الناس، ولكنها سرعان ما تذهب لأني لا أعيش هذه الحالة كثيراً. وهذا الأمر ليس لأني متواضعة تحديداً ولكن لأنه مهما اشتهر الشخص، فما معنى ذلك في النهاية؟ ففي الحقيقة الموت يأتي في لحظة وينتهي كل شيء”.
وتوضح: “لكن في نفس الوقت، يعد هذا صراعاً أحياناً عندما أُعطى جرعة كبيرةً جداً من الثقة بالنفس والغرور، وأشعر بأني متعالية وبأن أفكاري أفضل. ولكن سرعان ما أتذكر أني انسان طبيعي وأعود إلى التوازن. ولكنه ليس أسهل الأشياء”.
كما تقول: “أكره حجم الوعي الذاتي الذي أملكه أحياناً. أتمنى أن أكون طبيعية ولكني أراقب نفسي دائماً وأسأل عن الكثير من الأمور ولا أقبل أي شيء بسرعة، ودائما يوجد لدي نقد لذاتي”.
التوجه والجمال
لا تبدي فرح شما تخوفاً من أنها قد لا تملك توجهاً فنياً معيناً، تقول: “أنا أشعر بأني والكثير من شباب اليوم نتجه نحو اللا توجه. وهذا الأمر (disenchant) حصل في أوروبا ويمكن ملاحظته في الفكر الأوروبي، حيث أصبح الفن من أجل الفن، والقيم أصبحت مخلوقة بحسب الأشخاص، وبذلك يتم فقد الكثير من الأراضي الصلبة التي نمشي عليها”.
ولا ترى فرح أن هذا يعد خسارة أو أنها لا تمثل شيئاً: “بالنسبة لي، هي ليست خسارة. أنا لدي فكرة الجمال، حيث أن هذا الموضوع يؤثر بي بشدة، ويمكن لأي شيء أن يكون جميلاً. بالتالي لا يوجد شيء اسمه اللاشيء إن كان شيئاً. وفي النهاية فإن المتلقي سيفهمك بطريقته”.
وكذلك تقول فرح: “أنا سأبقى فلسطينية مهما تكلمت عن اللاشيء وعن الوجودية والتخلي والضياع. فبالنسبة لشخص أو اثنين فأنا سأكون الفلسطينية التي تكتب وتخلق لغة وتعيش عليها وتقوم بتنميتها حتى لو لم تكن هذه اللغة هي العربية فقط”.
وتضيف: “دوما ما توجد محاولات بأن لا نصبح مجرد لاشيء. فأنا خوفي الأكبر هو أن أكتفي بوظيفة وبيت. هذا هو خوفي الأكبر في الحياة. وهذا الخوف ينعدم بمجرد ما أتساءل كثيراً وأسافر، وإذا مرت 6 شهور وأنا في نفس المكان أشعر أن ليس كل شيء على ما يرام”.
وهنا توضح فرح بأنها “أعرف أن نيتي هي أن أكبر وأتعلم. وقد يؤدي هذا إلى فقدان الكثير من الأشياء، ولكن ليست هذه النية. نيتي ليست بأن استغني عن كل شيء ولكن بأن أبني على كل شيء (فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْ نرجسيّاً..)”.
وتضيف: “في البشرية كلها توجد مستويات، حيث يمكنني أن أتطلع من منظور الهوية والعروبة أو أن أفكر بمستوى آخر، وهو البشرية بشكل عام. وبالتالي يوجد تفاوت هنا كذلك”.
وتختم قولها: “وفي النهاية، ما دمت تعمل عملاً ما، فمهما ظهر منه لا بأس. المهم أن يكون المرء صادقاً فيما يقول”.
نبذة عن فرح شما
وُلدت فرح شما في الشارقة، ودرست في المواكب، ومن ثم التحقت بجامعة السوربون في أبوظبي. ودرست هناك لمدة 3 سنوات.
قبل توجهها للجامعة انتقلت فرح إلى البرازيل، لتكون بداية مرحلة السفر في حياتها عند حوالي 18 عاماً. مكثت في البرازيل قرابة 4 أشهر. وبعد تجربتها في البرازيل، سافرت فرح إلى فرنسا مع جامعتها. ووجدت من خلال هذه الرحلات أنها لا تحب التواجد في مكان واحد، بل أنها دائما تملك رغبة بالسفر. وفي آخر علم دراسي في الجامعة انتقلت فرح إلى فرنسا.
خلال تواجدها في البرازيل، حيث يتكلمون البرازيلية والبرتغالية، استطاعت فرح تعلم اللغة بسرعة، وهذا الأمر جعلها تلاحظ أن هناك شيء يربطها بحب تعلم اللغات. كما أنها تعلمت اللغة الفرنسية في الجامعة، ومن ثم تعلمت الألمانية واللغة الإسبانية كذلك. على الرغم من أنها لا تتكلم كل هذه اللغات بطلاقة إلى أنها تدرك أن لديها اهتمام باللغات بشكل عام.
وفي أول عام لفرح في جامعة السوربون في أبوظبي (وهي نفس الجامعة في باريس والتي انتقلت إليها)، درست فرح القانون والعلوم السياسية، ولكنها لم تهتم كثيراً في هذا المجال. وعلى الرغم من الصعوبة التي واجهتها في القانون واللغة، إلا أنها حققت المرتبة الثانية على الدفعة، ولكنها لم تملك أي جانب عاطفي يشدها إلى هذا المجال.
كان سبب دخول فرح في هذا المجال هو اهتمامها بالتعلم، حيث تملك اهتماماً بجميع المواد بشكل عام، الأمر الذي أدى إلى تكوين صعوبة لديها في اختيار التخصص. وعلى الرغم من اهتمامها بالأدب تحديداً، إلا أن فكرة أن الأدب لا يوفر لقمة العيشة شجعها إلى تجنب دراسة هذه المادة، بحسب قولها.
حين كانت فرح في المدرسة، دخلت على Model United Nations وهو مؤتمر مرتبط بالأمم المتحدة ولكن للأصغر سناً، وقد كانت الفكرة أن كل مشارك عليه أن يمثل دولة ما بشكل عشوائي، وقامت فرح بتمثيل 3 دول مختلفة خلال 3 سنوات. والفكرة كانت قائمة على تقديم نظرة واقعية عن الدولة المختارة مع تجنب الآراء الشخصية. ومن خلال هذه المشاركة لاحظت فرح أن لديها شغف بالتحدث أما الجمهور، وقررت بناء على ذلك دراسة القانون والعلوم السياسية لتنمية هذه المهارات.
ما لم تعلمه فرح حينها أن هذا المجال لا يناسبها، بحسب قولها، حيث أنها لا تملك تلك العقلية السياسية التي تهتم بقراءة التاريخ أو السياسة بشكل بحت، بل إنها تفضل قراءة الأدب. وهي ترى أنها تملك اهتماما سياسياً بشكل طبيعي في الحياة، ولكن توججها أدبي، واللغة التي تكتب بها هي لغة أدبية وشخصية. وبالتالي ترى فرح أن الإنسان الذي يدخل كثيراً في التأملات مع نفسه، من الصعب أن يفكر على المستوى الدولي أو على الصعيد السياسي.
ومن هنا وجدت فرح أن اهتماماتها أكثر لغوية وثقافية، وأنها تتفهم السياسة ولكن عن طريق الأفراد، حيث تفضل تذوق هذا الأمر عبر التوجه إلى أمسية شعرية أو مسرح ما وأن تفهم العالم عن طريق الحكايات الفردية، وهو الأمر الذي تقوم به اليوم.