نعيش اليوم في حقبة متميزة بالنسبة لروّاد الأعمال وتأتي الرغبة بالتحوّل إلى اقتصاد قائم على ريادة الأعمال وتعزيز الاستثمار نحو بناء منظومة متكاملة للشركات الناشئة على رأس قائمة أولويات الحكومات في منطقة الشرق الأوسط، ففي حين يتوفر ما يكفي من الدعم المالي لتحفيز الشركات الناشئة، فإنّ الطبيعة التي تتجنب المخاطرة لدى شركات رأس المال الاستثماري تدفعها نحو تركيز استثماراتها في الشركات الناشئة التي باتت في مراحل متقدمة من عمرها،وتلك التي حصلت على تقييمات واضحة.
إن أقل من 1 بالمئة من الشركات الناشئة ضمن المنظومات الناضجة تنجح في الحصول على رأس المال الاستثماري، بينما ينخفض هذا الرقم بمقدار الضعف في الأسواق الناشئة. وبينما تواصل الاستثمارات الرأسمالية تحركها باتجاه الشركات الناشئة الأكثر نُضجاً، تبرز فجوة تمويلية متنامية لدى الشركات الناشئة. ولا يُعتبر الأثر الناجم على المنظومات الناضجة بنفس التأثير كما هو الحال بالنسبة لنظيرتها الناشئة، وهو ما يُعزى إلى مجموعة من الأسباب.
ولطالما نجح المستثمرون الداعمون في سد الفجوة، فعلى سبيل المثال، قام المستثمرون الداعمون في الولايات المتحدة الأمريكية بضخ استثمارات قيمتها 24 مليار دولار في أكثر من 64 ألف شركة ناشئة. وفي حقيقة الأمر، تأتي 74 بالمئة من الاستثمارات في “سيليكون فالي” من المستثمرين في قطاع ريادة الأعمال، الذي نسبق وأن كانوا مؤسسين أو رؤساء تنفيذيين لشركاتهم الناشئة الخاصة.
وتُسلط ظاهرة “المؤسس يُمول نظيره المؤسس” الضوء على طبيعة العملية الاستثمارية، كدلالة على كونهم ينتمون إلى نفس منظومة ريادة الأعمال، ويملكون فهماً عميقاً لها، فضلاً عن لعبهم لدوراً حيوياً في بنائها، ومن شأن هذه المعرفة المُعمّقة أن تساعد في التخفيف من بعض المخاطر المصاحبة للتقييم الغامض للشركات الناشئة، حيث يتحول أكثر من 60 بالمئة من المستثمرين الداعمين إلى موجّهين للشركات الناشئة التي استثمروا فيها، وغالباً ما يستحوذون على مقعد في مجلس إدارتها، علماً أن أكثر من نصفهم يتمتع بخلفية تكنولوجية، ويُسهم الحصول على المستثمر الداعم “المناسب” في الحد من المخاطر المصاحبة لعملية ريادة الأعمال، كما يُعزّز معدل نجاح الشركات الناشئة في الحصول على التمويل خلال الجولات المستقبلية. وتشهد 11 بالمئة من محافظ المستثمرين الداعمين توليد عائدات إيجابية.
ومن ناحية أخرى، تتسم المنظومات الناشئة بنُدرة روّاد الأعمال من ذوي التجارب السابقة الناجحة، مما يؤدي إلى حالة من التناقض. ويزداد النطاق الزمني لعملية بناء منظومة ريادة الأعمال المستدامة حدّة، بالنظر إلى تعرض 67 بالمئة من الشركات الناشئة للفشل خلال مرحلة ما من العملية بسبب عدم قدرتها على جمع الأموال خلال جولة لاحقة من التمويل.وتكمُن المُفارقة في حينها بحاجة منظومة ريادة الأعمال الصحية والمستدامة لمجموعة كبيرة من الشركات الناشئة القادرة على تلبية متطلبات الطبقة المتوسطة الواسعة من المستهلكين، إلى جانب المستثمرين الداعمين ممّن كانوا سابقاً روّاد أعمال ناجحين، ومن الأفضل أن يكونوا ضمن المنظومة ذاتها. وبمعنى آخر، فعلى الرغم من ضرورة وجود الثروات الفردية أو الجماعية الكبيرة، غير أنّها بالتأكيد ليست كافية لبناء منظومة قوية في اقتصاد ناشئ، في حال لم تكن هذه الثروات مرتبطة مع الخبرات المحلية في مجال ريادة الأعمال.
وقد نجحت كل من الهند والصين في حل هذه المعضلة؛ ففي حين اتسم رصيد المواهب التكنولوجية لدى هذين البلدين بضخامته على الدوام، ونظراً لغياب الطبقة المتوسطة، فقد شهدت المرحلة اللاحقة للحرب العالمية الثانية هجرة واسعة للأفكار من الهند والصين باتجاه الولايات المتحدة و”سيليكون فالي”، فلم يعُد بالإمكان إيقاف رحيل نُخبة العقول من الهند، لاسيما من المعاهد الهندية للتكنولوجيا (IITs) بعد سبعينيات القرن العشرين، ولا من الصين منذ عام 1979، عندما بدأت الحكومة الصينية بإرسال ألمع طلابها وباحثيها إلى الولايات المتحدة في محاولة منها للّحاق بركب العلوم والتكنولوجيا الغربية. وبحلول عام 1990، كان حوالي 33 بالمئة من إجمالي العلماء والمهندسين في “سيليكون فالي” من الهند والصين، علماً أن 71 بالمئة من الصينيين و87 بالمئة من الهنود كانوا قد وصلوا بعد 1970.
وبالمضي قدماً، سيكون 88 بالمئة من المليار نسمة التالية التي ستنضم إلى الطبقة المتوسطة بصورة أساسية من الهند والصين بحلول عام 2030. إذ نشهد في الوقت الراهن هجرة عكسية هائلة للأدمغة من المهندسين والعلماء والمستثمرين الهنود والصينيين إلى وطنهم الأم. ويحمل 80 بالمئة من هؤلاء العائدين شهادات دراسات عُليا في العلوم والتكنولوجيا أو الأعمال. وتحرص الصين حالياً على تعزيز ثقافة صحية من الاستثمار الداعم، وعلى الرغم من كون هذا المفهوم ما زال في مراحله الأولى في الهند، غير أنه يكتسب زخماً سريعاً بالتزامن مع حصول البنية الأساسية لرأس المال الاستثماري على الأسس المتينة.
ولدى تحويل تركيزنا الآن إلى الوضع الراهن بدولة الإمارات العربية المتحدة، ودول مجلس التعاون الخليجي، نرى بأن الفرصة للانضمام إلى الهند والصين في مجال ريادة المشهد التكنولوجي العالمي واضحة للغاية. غير أنّه ما زالت هُناك بعض المعوقات التي لا بدّ من تجاوزها، كغياب الرصيد المحلي الكبير من المواهب التكنولوجية. فبدون وجود عملية منضبطة ومستنيرة ومتطورة لترتبط مع البنية الأساسية لرأس المال الاستثماري، من خلال الاستفادة من المُدركات المجتمعية المحلية والتحالفات الحكومية الدولية الإستراتيجية، ستتحول القوة الكامنة في القدرة على الوصول إلى الكميات الهائلة من رأس المال المحلي إلى واحدة من نقاط ضعفنا على نحو سريع.
وقد ناقش البروفيسور ثيل دور الحكومات في تحفيز منظومات ريادة الأعمال، كما قارن مواطن القوة في مجال التمويل (من جانب العرض) بالسياسات القائمة على التأسيس (الطلب). ويوصي البروفيسور بسياسات جانب العرض كآلية لتحفيز النمو.ومع ذلك، يُمكننا في حالة الاقتصادات الناشئة، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة، أن نصفها بأنها “مسألة الأجسام المتعددة”. وينبغي علينا تحفيز عملية تسريع تدفق المواهب العالمية الناشئة إلى داخل المنظومة ضمن دولة الإمارات.وإلى جانب الحكومة، لا بد لهذه العملية أن تضم الأطراف المعنية في الكفاءات المحلية من القطاع الخاص، مثل قطاعات الطيران والطاقة والنقل واللوجستيات والتمويل. ويُعتبر برنامج فينتشر لانش باد (Venture Launchpad)، مسّرع الشركات الناشئة من منصة ستارت إيه دي، مثالاً كلاسيكياً يُبشّر بالكثير.
وفي الوقت ذاته، يجب علينا توعية “المستثمرين في ريادة الأعمال” الإقليميين حول آليات وظروف الاستثمار الداعم في الشركات الناشئة الرقمية، فضلاً عن إتاحة فرصة الوصول إليه أمام الجميع. وتجمع النسخة السنوية الخامسة من المنتدى التعليمي للمستثمرين “إينجلرايزينج” “AngسيelRising” ألمع العقول من جميع أنحاء العالم لمناقشة أفضل الممارسات ذات الصلة بالسياق المحلي.وتتمثل القطعة الثالثة من الأحجية في بناء القدرات المحلية.وتجدر الإشارة إلى أن تعاون منصة ستارت إيه دي و”صندوق خليفة” سعياً لمواكبة التوجه نحو الاقتصاد الرقمي العالمي السريع من خلال برامج مثل “ابتكاري” و(Pitch@Palace).
وتتمتع دولة الإمارات بكافة المقوّمات الرئيسية التي تجعلها قادرة على بناء اقتصاد رقمي رائد، وما علينا إلا المثابرة والتأهب ومن ثم مواكبة تطورات القطاع لتحقيق الريادة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
بقلم راميش جاجاناثان، أستاذ الأبحاث بقسم الهندسة ونائب عميد تطوير ريادة الأعمال في جامعة نيويورك أبوظبي ومدير عام ستارت إيهدي
ملحوظة: مقال الرأي حصري لـ أريبيان بيزنس.