تخطو دول المنطقة خطوات متسارعة نحو تبني نموذج الاقتصاد الدائري، وهو نظام يهدف إلى تقليل الهدر والاستفادة القصوى من الموارد عبر تقليل النفايات والانبعاثات إلى أقصى حد. وذلك استبدالاً لنموذج الاقتصاد الخطي، الذي يعتمد على التسلسل التقليدي للتصنيع والاستهلاك، “خذ، اصنع، تخلص”، والذي يفترض أن الموارد الطبيعية والطاقة متوافرة بكميات كبيرة دون التفكر في عواقب هذا السلوك الاستنزافي.
ويتجلى اهتمام المنطقة بهذا التحول الاقتصادي والتنموي في رؤاها الوطنية واستراتيجياتها الاقتصادية الطموحة، كرؤية السعودية 2030، ورؤية الكويت 2035، ورؤية الإمارات 2021، وإستراتيجية الإمارات لاستشراف المستقبل، وغيرها. وجميعها استراتيجيات تتبنى الفكر الشمولي لنموذج الاقتصاد الدائري فيما يتعلق بتدفق الموارد والطاقة، حيث تسعى إلى زيادة القيمة الاقتصادية مع الحد من الآثار السلبية المترتبة على البيئة من خلال إغلاق دورة المواد، وتنمية إمكانات الطاقة الإقليمية، وضمان مشاركة الجميع.
وتتلخص الفرضية البسيطة للاقتصاد الدائري في أن “كل ما يُستخرج من الطبيعة يعود إلى الطبيعة لتتم إعادة تدويره إلى ما لا نهاية”، وهي ليست بالفكرة الجديدة، ولا تتعلق فقط بإعادة تدوير المواد، بل تشتمل الطلب على المواد والإنتاج المستدام. ومن أوائل النماذج التي جربت تطوير نظام الحلقة المغلقة للإنتاج قيام ستيف د. باركر ببحث استغلال النفايات كمورد في القطاع الزراعي بالمملكة المتحدة عام 1982، بهدف تصميم نظام يحاكي ويضيف إلى المنظومة البيئية التي يستغلها في بادئ الأمر.
وتسجل مدن المنطقة كدبي بصمات كربونية مرتفعة تعد من بين الأعلى في العالم، إلا أنها تسعى جاهدة للارتقاء بأدائها البيئي، حيث قطعت دبي على نفسها وعداً طموحاً يتمثل في التحول إلى المدينة الأقل في البصمة الكربونية على مستوى العالم بحلول العام 2050، وسيلعب النموذج الدائري للاقتصاد دوراً محورياً في تحقيق ذلك.
وحالياً، لدى دبي عدة مبادرات واستثمارات لرسم ملامح مستقبل الطاقة النظيفة حتى العام 2050. حيث تطمح عبر مزيج متكامل من مصادر الطاقة المتجددة تحقيق التوازن بين احتياجاتها الاقتصادية وأهدافها البيئية. ويعد مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية أحد أبرز المشاريع لتحقيق هذه الرؤية التي تهدف إلى إنتاج 75 بالمئة من طاقة دبي من مصادر نظيفة بحلول 2050.
كما وقعت حكومة الإمارات في أبريل/نيسان الماضي بالتعاون مع منتدى الاقتصاد العالمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مبادرة “تسريع الاقتصاد الدائري 360″، والتي تسعى إلى توظيف تقنيات الثورة الصناعية الرابعة لتحقيق اقتصاد دائري عالي الكفاءة، بحيث تُرفق جميع المواد المصنعة ببيانات تستفيد من منظومة “إنترنت الأشياء” لتوفر إمكانات هائلة يمكن أن تؤدي إلى الحد من هدر الموارد، وتتبع استخداماتها وإعادة تدويرها، والتي هي من أسس مدن المستقبل واستدامة الإنتاج.
ولتكون مدن المنطقة قادرة على إدارة البنية التحتية بشكل دائري عليها مد التقنيات الذكية إلى كافة قطاعاتها والتي تشمل المياه، والطاقة، والاتصالات، والنقل، والمرافق العامة، والمباني، وإدارة فرز النفايات، وغيرها. ويتطلب تسريع الخطى نحو تحقيق أهداف الاقتصاد الدائري العمل مع الشركاء الدوليين لتبادل الخبرات وأفضل الممارسات، كالمملكة المتحدة التي تتمتع بنقاط قوة معترف بها دولياً في دمج الأنظمة الذكية على مستوى المدينة.
فبحسب تقرير “بوليتيكو” (POLITICO) تحتل بريطانيا المركز الثاني في مؤشر الاقتصاد الدائري الأوروبي، وتمتلك تجربة رائدة في هذا المجال، ويمكن لتطوير التعاون المشترك بينها وبين دول المنطقة إيجاد آليات عملية لتحقيق النتائج المرجوة بكفاءة وفعالية. وتلعب شركات المملكة المتحدة دوراً كبيراً في دعم تحقيق نتائج بيئية ملموسة في مختلف الدول، مثل مشروع “ديسلوينيتور” (Desolenator) الذي يستخدم الطاقة الشمسية حصراً لتنقية المياه من أي مصدر بما في ذلك مياه البحر، وقد أثبت جدواه في المناطق التي تعاني شح المياه أو التي يكون فيها البحر المصدر الوحيد المتاح. وقد فازت الشركة بالفعل بمنحة برنامج إكسبو دبي 2020 للابتكار، وتقوم حالياً بإنشاء مشروع تجريبي لهذه التقنية في أحد مواقع هيئة كهرباء ومياه دبي في جبل علي يهدف إلى إنتاج ما يصل إلى 25 متر مكعب من المياه النقية في اليوم الواحد.
وأطلق مجلس المباني الخضراء في المملكة المتحدة برنامج الاقتصاد الدائري في ربيع 2018. وفي السنة الأولى، تمكن المجلس عبر العمل مع الأعضاء والأطراف المعنية من إنتاج دليل عملي شامل للراغبين في إدراج مبادئ مستدامة في ملخصات مشاريعهم. كما أنشأ المجلس خارطة بالموارد والمبادرات المبنية حول الاقتصاد الدائري، للسماح للمنظمات باستخدام المعرفة الحالية والمنهجيات المجربة دون الحاجة إلى البدء من الصفر.
ومن ناحية أخرى، تنظم المملكة المتحدة عدداً من المؤتمرات والمعارض الهامة على مستوى العالم والتي تتمحور حول نقل المعرفة والتقدم في تقنيات المدن الذكية. مثل منتدى المملكة المتحدة للمدن الذكية، وأسبوع لندن للتقنية، ومؤتمر النقل الذكي، ومعرض تقنيات إنترنت الأشياء (IoT Tech Expo) الذي يُعد أكبر سلسلة مؤتمرات في هذا المجال في العالم، ويجمع بين الصناعات الرئيسية من مختلف أنحاء العالم للاطلاع على أحدث الحلول والمشاركة في المناقشات الإستراتيجية لرواد المجال.
وهناك وعي عالمي متزايد بأهمية الاستدامة الاقتصادية والبيئية، ودول المنطقة في وضع جيد لتحقيق هذه الأهداف، لكن رغم الإنجازات المشرفة لا تزال الطريق أمامها طويلة لتحقيق نظام اقتصادي دائري حقيقي. فالعديد من الشركات ترغب في اعتماد نموذج عمل مستدام، إلا أن لدى معظمها مخاوف من تأثير ذلك على نتائج أعمالها. والجواب على هذه المخاوف بسيط؛ فتطبيق هذا النموذج بالطريقة الصحيحة سيعود حتماً بفوائد اقتصادية جمة للشركات والأفراد على حد سواء. وعلى الحكومات دعم هذا التوجه عن طريق سن التشريعات الداعمة ودمج التوجهات والممارسات المبتكرة على المستوى الوطني والإقليمي.
مقال حصري لمجلة أريبيان بزنس بقلم سايمون بيني؛ المفوض التجاري البريطاني لصاحبة الجلالة لشؤون الشرق الأوسط وأفغانستان وباكستان