في ظل التوقعات العالمية المتفائلة بعودة قطاع السياحة إلى مستويات ما قبل جائحة كوفيد-19، بل وتجاوزها، تبرز المملكة العربية السعودية كلاعب رئيسي في هذا القطاع الحيوي، بعد تسجيلها أرقامًا قياسيةً في عام 2023، باستقبالها 100 مليون سائح، مما يعكس نموًا ملحوظًا في السياحة الوافدة والمحلية.
ونمت السياحة الوافدة إلى السعودية بنسبة 65%، و2% للمحلية مقارنة بمعدلات 2022، لتحتل المركز الثاني عالمياً كأسرع وجهة سياحية نموًا على مستوى العالم، والمركز 11 في مؤشرات إيرادات السياحة الدولية في عام 2023، وفقاً لمنظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة.
رؤية طموحة لمستقبل السياحة
هذا النجاح اللافت ليس وليد الصدفة، بل هو ثمرة جهود متواصلة يقودها صندوق الاستثمارات العامة، الذي يمتلك محفظة متنوعة من المشاريع الطموحة التي تهدف إلى تعزيز مكانة المملكة كوجهة سياحية عالمية المستوى.
وقد أسس الصندوق خلال السنوات السبع الماضية 94 شركة استثمارية جديدة، تمثل جميعها منظومة متكاملة تخدم تطور ونمو قطاعات الاستثمار الواعدة التي يستهدفها.
والناظر إلى استراتيجية الصندوق في القطاع السياحي يلحظ الحرص على تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، هي:
- إطلاق قدرات القطاع من خلال المشاريع الكبرى التي تعزز مكانة المملكة في القطاع عالميًا
- بناء منظومة الأعمال المتكاملة وسلاسل التوريد الخدمية المحيطة بالقطاع
- صنع نموذج عالمي جديد يجعل الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية صفة ملازمة للقطاع في المملكة، بما ينسجم مع مستهدفات المملكة والصندوق لتحقيق الحياد الصفري بحلول عامي 2050 و2060 على التوالي
مشاريع عملاقة تعيد تعريف السياحة
وفي سبيل تحقيق الهدف الأول، بما يشمل إطلاق قدرات القطاع من خلال المشاريع الكبرى، أسس الصندوق وأطلق مجموعة واسعة من الشركات الكبرى ومنها شركة “القدية” للاستثمار والتي تهدف لتأسيس وجهة عالمية مميزة، ويشمل مخططها الحضري مدينة من 60 ألف مبنى وتوفر أكثر من 325 ألف فرصة عمل نوعية، لتحقق بذلك زيادة في إجمالي الناتج المحلي بحوالي 135 مليار ريال سعودي، وتضم مقراً عالمياً للألعاب الإلكترونية ومضمارا لسباقات الفورمولا 1 وملعبين لرياضة الغولف، ومدينة رياضية لكرة القدم تحتوي على أكبر متحف أولمبي في العالم، بالإضافة إلى مدينة(Six Flags) الترفيهية ومنتزه الألعاب المائية.
كما تشمل مشاريع الصندوق الكبرى شركة البحر الأحمر الدولية، التي تعمل على تطوير وجهتي “البحر الأحمر” و “أمالا” وشركة الدرعية، وهي المسئول عن تطوير مشروع الدرعية، والتي تعد مهد المملكة، وتضم أحد المناطق المدرجة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، وتقدم الدرعية مزيجًا من المعالم الثقافية والتاريخية والسياحية، وتعرض بفخر 300 عام من تاريخ المملكة العربية السعودية للعالم.
تعزيز البنية التحتية لقطاع السياحة
أما على صعيد منظومة الأعمال المتكاملة للقطاع السياحي، فقد أطلق الصندوق مجموعة من الشركات والمشاريع المهمة الداعمة لتعزيز مكانة المملكة كواجهة سياحية إقليمية وعالمية، وتوفير تجربة سياحة ملهمة للقادمين من أنحاء العالم.
واستثمر الصندوق في هذا الإطار بشركة “الخطوط الحديدية السعودية”، وشركة “أوبر” لتوسعة وتعزيز خدماتها ونطاق عملها، كما أسس ناقلا جويا وطنيا جديدا وهو شركة “طيران الرياض”.
وأطلق مشروع تطوير مطار الملك سلمان الدولي في العاصمة السعودية الرياض، والذي يستهدف وضع المطار على قائمة المطارات الأكبر عالمياً من حيث المساحة والقدرة الاستيعابية.
كما أسس عام 2023 الشركة السعودية للاستثمار السياحي “أسفار”، والتي تهدف إلى تعزيز قدرات القطاع السياحي من خلال الاستثمار في إنشاء المشاريع السياحية وتطوير الوجهات الجاذبة في مجالات الضيافة والترفيه والتجزئة والأغذية والاستثمار في تعزيز سلسلة القيمة لقطاع السياحة.
وفي سياق دوره الهادف لإحداث تحوّلات استراتيجية في القطاعات التي يستثمر فيها، حرص الصندوق على تحقيق هدفه الثالث من الاستثمار في القطاع، من خلال ابتكار مفهوم جديد للسياحة قادر على جعلها جزءا من رحلة التحول الوطنية والعالمية نحو الاستدامة، من خلال مشاريع متميزة في المزج بين الاعتبارات البيئية والاقتصادية وأوليات المجتمعات المحلية لإحداث أثر تنموي طويل الأمد، وتقديم نموذج جديد للقطاع السياحي عالميا.
نموذج جديد للسياحة المستدامة
واستند الصندوق إلى تجربته الراسخة في مجال الاستدامة، إذ حصل على المرتبة الأولى في منطقة الشرق الأوسط، والسابعة عالمياً من بين 100 صندوق ثروة سيادي ضمن تصنيفات الحوكمة والاستدامة والمرونة العالمية من مؤسسة Global SWF، كما وضع الصندوق إطار عمل للتمويل الأخضر كأساس لإصدار السندات الخضراء والصكوك والقروض وأدوات الدين الأخرى بما يتماشى مع أفضل المعايير الدولية، وقد أجرى “ًصندوق الكربون” في عام 2023 تحليلاً للمشاريع التي تمولها السندات الخضراء، وقدّر أنه من المرجح أن تسهم في تعويض 5.6 مليون ميجاوات ساعة من إنتاج الطاقة، بالإضافة إلى تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في المستقبل بمقدار 3.5 مليون طن.
وفي هذا الإطار، أطلق الصندوق شركة عسير للاستثمار كذراع استثماري في منطقة عسير، بهدف تحفيز الاستثمارات المحلية والدولية المباشرة لتطوير المنطقة، وتحويلها إلى وجهة سياحية عالمية على مدار العام، كما أطلق شركة السودة للتطوير، والتي تشمل مشاريعها مجموعة من أعلى قمم المملكة وأكثرها غنى بالتنوع البيئي، وتعمل على تطوير 2700 غرفة فندقية، و1300 وحدة سكنية بتناغم كامل مع الطبيعة، وجهود كبيرة لحماية وتعزيز غطاء الغابات بالشراكة مع المجتمع المحلي.
الاستدامة في قلب الاستراتيجية السياحية
كذلك أطلق الصندوق شركة كروز السعودية، التي تهدف إلى تأسيس قطاع الرحلات البحرية السياحية في المملكة، وتحويلها إلى واجهة سياحية رائدة على خارطة الرحلات البحرية السياحية الدولية، وشركة تطوير البلد والتي تعمل بالتعاون مع القطاع الخاص والجهات المتخصّصة على تطوير منطقة جدة وفق أفضل معايير التخطيط الحضري مع مراعاة الاستدامة البيئية والحفاظ على الطابع التراثي الفريد.
وشركة “اردارا”، وتهدف إلى تطوير منطقة الوادي في أبها بمنطقة عسير، لتكون مركزاً حضرياً ووجهة سياحية جاذبة للزوار محلياً وعالمياَ، وشركة دان المتخصصة في تطوير مشاريع سياحية ريفية وبيئية، بالشراكة مع المجتمعات المحلية.
كما نرى اعتبارات الاستدامة حاضرة بقوة في مخططات المشاريع الكبرى، حيث تهدف شركة البحر الأحمر الدولية على سبيل المثال إلى وضع معايير عالمية جديدة في الاستدامة، مع حلول رقمية لمراقبة التأثير البيئي. وسيعتمد مشروع البحر الأحمر على الطاقة بنسبة 100% من المصادر المتجددة.
وفي ظل ما كشفته بيانات منظمة العمل الدولية لعام 2023 التي أشارت إلى أن عدد العالمين في القطاع السياحي حول العالم وصل إلى 230 مليون شخص يمثلون أكثر من 7% من إجمالي القوى العاملة عالميا، كما أن القطاع مسؤول عن استحداث 25% من إجمالي الوظائف الجديدة التي يشهدها العالم حاليا، فإن المفهوم الجديد الذي يقدمه الصندوق لعملية الاستثمار السياحي ودوره في تحويل القطاع إلى ركيزة للاقتصاد في المملكة والعالم، نموذج بارز جدير بالمتابعة بين النماذج التنموية لصناديق الاستثمار والثروة السيادية عالمياً، ويقدم خريطة طريق لمستقبل قطاع حيوي يمس حياة مليارات البشر حول العالم.