تشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى أن العالم يُهدر ثلث إجمالي الطعام المنتج سنوياً، مما يتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة وإحداث تحول جذري من أجل ضمان الأمن الغذائي والاستقرار المناخي. إذ بلغ عدد الأشخاص الذين عانوا الجوع في عام 2022، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، أكثر من 780 مليون شخص في العالم، حيث نحتاج الآن أكثر من أي وقتٍ مضى لوضع سياسات مشتركة وخطط استثمارية تضمن حماية الأجيال المقبلة من خطر انعدام أمن الغذاء وتهديدات تغير المناخ.
وبينما تولّد منظومة الغذاء ثلث انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم سنوياً، تتسبب الأغذية المهدورة بنحو نصف هذه الكمية، مما يجعل من موضوع تحقيق الأمن الغذائي محوراً بارزاً على أجندة تعزيز كفاءة القطاع من جهة وقضية محورية في إستراتيجية تحسين المناخ من الجهة أخرى.
ويسهم استخدام نهج تراكمي وخطوات تدريجية لتحقيق الأمن الغذائي العالمي في توفير فائدة مضاعفة تتجاوز آثارها تطوير قطاع الأغذية والمشروبات لتشمل تحسين المناخ ودعم الاقتصاد، إلا أن هذا النهج سيظل منقوصاً ما لم يصحبه تركيز جدّي على بناء اقتصاد دائري قوي يتمحور حول الحدّ من هدر الغذاء وتحقيق الاكتفاء.
وتمتلك مرحلة التصنيع القدرة على دفع مسيرة تقدم القطاع نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي على المستويين الإقليمي والعالمي، لا سيما في ظل فقدان وهدر نحو 14% من الغذاء في العالم سنوياً، أي ما تقدر قيمته بـ 400 مليار دولار أمريكي، بعد عملية الحصاد وقبل وصوله إلى المتاجر ونقاط البيع. ويجب على الجهات المعنية في قطاع الأغذية والمشروبات أخذ هذه الأرقام والإحصاءات في الاعتبار، لا من أجل تحقيق الأمن الغذائي على المدى الطويل فحسب، بل أيضاً من أجل تحقيق استدامة المناخ.
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أن بناء شبكات تضمن أمن الغذاء يتطلب التعاون في إيجاد بنية تحتية متكاملة لإنتاج الأغذية وتخزينها ونقلها من أجل تعزيز المرونة على امتداد سلسلة القيمة على المدى الطويل، مع توجيه التركيز إلى تطوير قطاع النقل الذي يكمن فيه الحلّ المنشود لضمان الأمن الغذائي.
الدور المحوري الذي يؤديه قطاع النقل في تحقيق الأمن الغذائي

هناك رابط قوي بين تطور قطاع النقل وزيادة الأعباء البيئية التي تفرضها نظم الأغذية، لا سيما مع ظهور المزيد من المناطق الحضرية وإمكانية توسعها في المستقبل، حيث أدى النشاط العالمي إلى ازدهار أسواق استيراد وتصدير الأغذية في مختلف أنحاء العالم، سواء عبر النقل البري أو البحري أو الجوي، ولا يمكن أن يأتي ذلك من دون تبعات.
في هذا السياق، تظهر الأبحاث أن النقل مسؤول عن توليد 19% من إجمالي الانبعاثات في قطاع الأغذية، إذ تولّد مرحلة نقل الفواكه والخضراوات ضعف كمية انبعاثات الغازات الدفيئة مقارنةً بمرحلة الإنتاج. كما حُدِّدت مراحل الإنتاج والتخزين والنقل بصفتها مواطن الضعف الرئيسة في أداء سلسلة التوريد الغذائية، حيث أظهرت تقديرات الأمم المتحدة أن 13% من الغذاء المنتج عالمياً يُهدر بين مرحلتي الحصاد والبيع بالتجزئة.
ودفع ذلك منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) إلى الدعوة لتحسين مراحل التصنيع والمعالجة والتعبئة والاستهلاك بهدف الحد من هدر الطعام والمنتجات الغذائية، حيث تتسبب عدم كفاءة منشآت التخزين أو المعالجة أو النقل بخسارة 40-50% من المحاصيل الجذرية ومنتجات الفواكه والخضروات.

ويجب التركيز بشكلٍ خاص على تحسين جودة مخازن التبريد التي تشكل إحدى المحطات الأساسية في سلسة توريد الأغذية، حيث يتسبب سوء التبريد في تلف 526 مليون طن من الغذاء سنوياً على مستوى العالم، الأمر الذي يمكن لتداركه الإسهام في إحداث أثر إيجابي شامل على امتداد سلسلة القيمة.
ويتطلب ذلك نهجاً متكاملاً يتضمن توفير وحدات للتخزين والتبريد الأفضل من نوعها في موقع قريب من شبكات النقل متعددة الوسائل لتجنب تلف الأغذية من خلال تقليل الوقت اللازم لنقلها خلال عمليات الإنتاج والاستيراد والتصدير. ويسهم تطوير البنية التحتية الخاصة بالنقل في تعزيز الأمن الغذائي من خلال ضمان سلامة الأغذية سريعة التلف والحفاظ عليها طازجة، بما يسهم في الحد من هدر الأغذية وتعزيز الوصول إلى الأسواق.
ويدعم الاقتصاد الدائري تبادل المنتجات والأفكار وتعزيز ربط شبكات النقل، حيث يتبنى المخطط الرئيسي لمدينة دبي الصناعية هذا النموذج الذكي منذ تأسيسها في عام 2004 لتضم ست مناطق متخصصة بقطاعات إستراتيجية، مستفيدةً من شبكة نقل متعددة الوسائل وموقعها الإستراتيجي على بُعد ثماني ساعات من ثلثي سكان العالم.

وبشكلٍ عام، يؤدي القطاع الخاص دوراً محورياً في تحقيق الأمن الغذائي على المدى الطويل من خلال العمل عن كثب لدعم رؤية القطاع العام والإستراتيجيات التي يتبناها. ويسهم هذا التعاون في تحسين كفاءة استخدام الموارد وزيادة الاستثمار في مجال البحث والتطوير. كما تلعب هذه الشراكات دوراً أساسياً في تطوير أنظمة غذائية عادلة ومستدامة تلبي احتياجات الأعداد المتزايدة من السكان، وتسهم في الوقت نفسه في حماية الموارد الطبيعية من خلال تعزيز سهولة الوصول إليها.
لذلك، يجب على الجهات المنتجة للأغذية والمشاركة في سلسة التوريد الغذائي العمل على مواءمة رؤيتها مع مستهدفات أجندة دبي الاقتصادية “D33″ و”مشروع 300 مليار” و”الإستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي 2051″ من أجل تعزيز قطاع الأغذية الإقليمي وتمكينه من الاستفادة من الشبكات والأدوات التي يوفرها الشركاء واستخدام أفضل الممارسات العالمية للابتكار والتطوير، بما يضمن تحقيق الهدف المشترك المتمثل في توفير سلاسل توريد غذائية مرنة ومستدامة.
ويجب التنويه في النهاية أن مسؤولية تحقيق الأمن الغذائي لا تقع على عاتق جهات الإنتاج فحسب، بل تتشاركها جميع أطراف سلسلة القيمة في قطاع الأغذية والمشروبات التي يجب عليها توحيد الجهود من أجل تحقيق الهدف المشترك المتمثل في تحقيق الأمن الغذائي، خاصةً من خلال التركيز على قطاع النقل الذي يؤدي دوراً أساسياً في توفير الحلول اللازمة للحدّ من هدر الغذاء وتحسين المناخ في المستقبل. وهنا لا بد من الإشارة إلى المخطط الرئيسي لمدينة دبي الصناعية الذي يقدّم نموذجاً رائداً عن كيفية بناء اقتصاد دائري يدعم الإنتاج المحلي، ويسهم في تعزيز الأمن الغذائي على المستوى الإقليمي.

