في مرحلة تشهد فيها الشركات الناشئة في مصر حراكًا ملحوظًا لكنها تصطدم بـفجوات التمويل، وتتعرض فيها الصحافة التقليدية لضغوط وجودية بفعل سيطرة المنصات الرقمية وتسونامي الذكاء الاصطناعي، يصبح الحديث عن الحلول والتحصين ضرورة. شحاته السيد عضو تحالف اليونسكو لمحو الأمية الإعلامية ومؤسس شركة OSH للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والفائز بتحدي الابتكار من جوجل عام 2022، هو أحد الشخصيات التي ربطت بنجاح بين هذه الملفات الشائكة. في حوار مع أريبيان بزنس يكشف شحاته عن رؤيته لدعم المشاريع الناشئة في مصر، مؤكدًا على ضرورة بيئة تمويل “أكثر مرونة وجرأة”. كما يحدد معالم مستقبل الصحافة، مشيرًا إلى أن بقاءها رهنٌ بـ”العمق، التفسير، والقصص الإنسانية”، وأن الصحفي لن يُستبدل بل سيتحصن عبر توظيف الذكاء الاصطناعي بدلًا من التوجس منه. الحوار يأخذنا أيضًا إلى رحلة شحاته الشخصية الملهمة التي حولت التحديات إلى مسار نحو الابتكار والتأثير الإقليمي.
ويجيب عن استفسار محرر أريبيان بزنس عن رؤيته لدعم المشاريع والشركات الناشئة وتمويل نموها في مصر، وتوفر مبادرات حكومية لدعم هذه الشركات قائلاً:” الحقيقة إن مشهد الشركات الناشئة في مصر فيه جوانب مضيئة وأخرى تحتاج إلى تطوير جاد على مستوى المبادرات الحكومية، هناك جهود مثل مبادرة رواد النيل، وصندوق دعم المبتكرين والنوابغ، وحاضنات الأعمال داخل الجامعات، وكلها تعكس وعيًا بأن الاقتصاد القائم على الابتكار بات ضرورة وليس رفاهية. لكن إذا نظرنا إلى التمويل، سنجد أن الفجوة لا تزال قائمة، خصوصًا في المراحل المبكرة التي تكون فيها الفكرة واعدة لكنها لم تثبت جدارتها بعد. في هذه المرحلة، كثير من رواد الأعمال يصطدمون باشتراطات التمويل التقليدي، سواء من البنوك أو حتى بعض صناديق الاستثمار، والتي غالبًا ما تبحث عن ضمانات وأرقام نمو ملموسة بينما طبيعة الشركات الناشئة قائمة على المغامرة والفكرة الطموحة. مصر بحاجة إلى بيئة تمويل أكثر جرأة ومرونة، شبيهة بما نراه في الأسواق العالمية، حيث تُضخ استثمارات في الفكرة ذاتها وفي الفريق الذي يقف وراءها، قبل أن تُقاس فقط بالأرباح.
يتعرض قطاع الصحافة لضغوط هائلة تهدد استمراره، سواء من التكنولوجيا أو استحواذ المنصات على الإعلانات. كيف ترى مستقبل الصحافة؟
أولًا، يجب الاعتراف أن الصحافة التقليدية فقدت جزءًا كبيرًا من نموذجها الاقتصادي القديم، لأن الإعلانات التي كانت تمثل عصب التمويل اتجهت بشكل شبه كامل إلى المنصات الرقمية الكبرى مثل فيسبوك وجوجل والحقيقة أن التكنولوجيا بدورها غيرت طبيعة الاستهلاك الإعلامي، وأصبح الجمهور يفضل المحتوى السريع والمرئي والمباشر. لكن رغم هذه الضغوط، أنا لا أرى في ذلك نهاية الصحافة، بل لحظة اختبار حقيقية، وأقول لك الصحافة التي ستبقى هي التي تقدم ما لا تستطيع الخوارزميات ولا المنصات التجارية أن تقدمه: العمق، التفسير، القصص الإنسانية، والتحقيقات التي تكشف حقائق مخفية، مستقبل الصحافة سيكون أكثر تخصصًا، وأكثر اعتمادًا على نماذج تمويل بديلة مثل الاشتراكات، والدعم الجماعي، والتعاون مع مؤسسات بحثية وأكاديمية. الصحافة لن تختفي، لكنها ستتغير جذريًا.
ظهرت منصات مثل Outlier AI التي توظف صحفيين لتدريب النماذج والتحقق من صحة المحتوى. كيف ترى هذه التجربة؟ وهل يمكن الاستغناء عن الصحفي؟
هذه الظاهرة تكشف شيئًا مهمًا: أن الصحافة ما زالت جوهرية حتى في صناعة الذكاء الاصطناعي، إذا كانت هذه المنصات تدفع للصحفيين مبالغ مقابل تقييم النصوص وتدريب النماذج، فهذا دليل على أن الخوارزمية لا يمكنها أن تعمل وحدها ولا يمكنها أن تلتقط الحس الأخلاقي، ولا البعد الإنساني، ولا السياق الثقافي والاجتماعي. الذكاء الاصطناعي قد يكتب تقريرًا، لكنه لا يستطيع أن يعيش لحظة مع أم فقدت ابنها في هجرة غير شرعية مثلاً، أو أن يخوض تحقيقًا في ملفات فساد وسط مخاطر شخصية هذه أبعاد جوهرية في الصحافة لا تُستبدل، صحيح أن بعض أشكال الصحافة الروتينية مهددة، مثل تحرير البيانات الصحفية أو الأخبار السريعة، لكن الصحافة الاستقصائية أو المحلية المتجذرة في المجتمع ستظل عصية على الاستبدال، كيف يتحصن الصحفي أمام الذكاء الاصطناعي ليبقى متفوقًا؟
أعتقد أن المعركة ليست ضد الذكاء الاصطناعي، بل في كيفية توظيفه، الصحفي الذي يتقن هذه الأدوات سيكون متفوقًا على غيره وهنا التحصين يتم على ثلاثة مستويات:
- 1. إتقان الأدوات: الصحفي بحاجة إلى أن يعرف كيف يوظف الذكاء الاصطناعي في فرز آلاف الوثائق، أو تحليل البيانات المعقدة، أو حتى كشف التلاعب في الصور والفيديو.
- 2. القصص الإنسانية: هذه ميزة لا يمكن للخوارزميات تقليدها لأن القرب من الناس، نقل صوت المهمشين، وتجسيد المشاعر لا يُبرمج.
- 3. التفكير النقدي: الصحافة هي طرح أسئلة صحيحة قبل البحث عن الإجابات، الذكاء الاصطناعي قد يقدم إجابات، لكنه لا يعرف ما السؤال الجدير بالطرح.
رحلتك الشخصية لفتت الأنظار: من طفولة مليئة بالتحديات إلى تغيير مسارك وبناء نجاحك. هل كانت الفكرة داخلية أم موقف خارجي غيّر حياتك؟
الحقيقة أن طفولتي لم تكن سهلة، كانت مليئة بالعراقيل، لكنني تعلمت مبكرًا أن الظروف ليست قدرًا محتومًا، سافرت صغيرًا إلى ليبيا وسط الحرب لأبحث عن لقمة عيش في بداية 2010 ووجدت نفسي هناك محاصراً وسط حرب طاحنة لا يمكنني الخروج منها، عشت في ليبيا 4 سنوات وعدت في 2014 وكانت تجربة صعبة عمّقت إدراكي أن الألم يمكن أن يتحول إلى قوة، وأن كل مطب يمكن أن يكون درسًا. لم يكن التحول نتيجة موقف واحد، بل حصيلة سلسلة من التجارب القاسية التي جعلتني أوقن أن الاستسلام ليس خيارًا حتى قلت لنفسي: “إذا لم أصنع طريقي، فلن يصنعه أحد لي” ومن هنا بدأت مسيرتي التي حملتني نحو الصحافة بعدما درستها، حيث خضت معارك المهنة حتى أثبت وجودي. كان من ثمار هذه الرحلة أن فزت بتحدي الابتكار من جوجل عام 2022، وتخصصت في هندسة البرمجيات وهندسة الذكاء الاصطناعي وبدأت تطبيقة في الإعلام، وعلى مدار 4 سنوات دربت أكثر من 3500 صحفي وطالب وأستاذ جامعي. واليوم، يشرفني أن أكون عضوًا في تحالف اليونسكو لمحو الأمية الإعلامية والمعلوماتية، لأواصل الطريق الذي بدأته منذ طفولتي لاحول التحديات إلى فرص، وصناعة أثر حقيقي.
ما رسالتك للشباب الذين يعيشون ظروفًا مشابهة؟
رسالتي بسيطة: لا تجعلوا الظروف تُعرّفكم لأن الظروف يمكن أن تكون حائطًا تسقطون أمامه، أو سلّمًا ترتقون به. الفرق في كيفية التعامل معها والمهم هو أن تؤمنوا بأنفسكم، أن تبحثوا عن دوائر دعم صحيحة، أن تتعلموا باستمرار، وأن تصبروا. التغيير ليس سهلًا ولا سريعًا، لكنه ممكن.
لديك كاريزما وحضور على الشاشة هل تفكر في الإعلام المرئي عبر التلفزيون أو المنصات الرقمية؟
الفكرة موجودة، وأؤمن أن قصص النجاح والمعرفة تحتاج إلى الوصول إلى جمهور أوسع لأن الإعلام المرئي يمنح فرصة للتأثير المباشر والإنساني سواء عبر برنامج على يوتيوب أو حتى تجربة تلفزيونية، الاحتمال قائم. لكن بالنسبة لي، المسألة ليست في الظهور من أجل الظهور، بل في أن يكون المحتوى له رسالة واضحة ويضيف قيمة.
ما الذي تعمل عليه حاليًا؟ وما خططك المستقبلية؟ وهل أنت راضٍ عن مسيرة شركتك؟
أعمل حاليًا عبر شركتي OSH للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وهي شركة ذات مسؤولية محدودة مسجلة في مصر، على بناء حلول قائمة على الذكاء الاصطناعي تستهدف الإعلام والمجتمع المدني، حيث نركز على تحويل التكنولوجيا إلى أداة لخدمة الحقيقة وحماية المجتمع من التضليل، حتى تكونت رؤيتي أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية عابرة أو أداة للربح فقط، بل مساحة مستمرة للابتكار يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة للصحافة والمعرفة. كما نعمل على تطوير أنظمة ذكية لكشف الأخبار المضللة والتزييف العميق، ومنصات تحليل متقدمة تساعد المؤسسات الإعلامية على فهم جمهورها والتفاعل معه بطرق أكثر عمقًا. كما نطوّر برامج تدريبية عملية تتيح للصحفيين والطلاب والباحثين توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في عملهم، ليكونوا جزءًا من ثورة تقنية لا تهدد دورهم بل تعززه. وبجانب الإعلام، نوسع نطاق عملنا ليشمل الصحة عبر تطوير أنظمة تحليل بيانات طبية تدعم التشخيص المبكر، والقانون من خلال أدوات تسهّل الوصول إلى السوابق القضائية وتدعم الشفافية، والهندسة والصناعة بابتكار حلول ذكية لتحسين الكفاءة والإنتاجية، إلى جانب تطبيقات في التعليم وحقوق الإنسان وغيرها من المجالات التي تمس حياة الناس بشكل مباشر. منهجية الشركة باتت قائمة على قناعة راسخة: أن التكنولوجيا تصبح ذات معنى حقيقي فقط حين تتحول إلى قيمة تخدم الإنسان وتدعم المجتمع، في كل قطاع ومجال. هل أنا راضٍ؟ الرضا بالنسبة لي مرحلي، أنا راضٍ عن ما تحقق حتى الآن، لكني دائمًا أنظر إلى الخطوة التالية، اما خطتي المستقبلية هي التوسع إقليميًا، وبناء منصات عربية قوية تكون مرجعًا للصحفيين وصناع المحتوى، وتضمن أن الحقيقة تظل حاضرة وقادرة على الصمود أمام زيف التكنولوجيا.