رغم أنني قد أبدو متحيزاً إلى حدٍ ما، لكنني أكاد أجزم أن مشهد البيع بالتجزئة في منطقة الخليج يمر بواحدةٍ من أكثر مراحله حيويةً. وأكثر ما يلفت الانتباه هو التقارب السلس بين التجارة الإلكترونية، وظهور تجارة التجزئة المستدامة، ورقمنة سلاسل التوريد، والمشهد الرقمي سريع التحول الذي يحدث تغييرات جذرية في هيكلية القطاع.
في ظل المنافسة المتنامية بين تجار التجزئة الإلكترونية، والأسواق الإلكترونية، والمبيعات المباشرة إلى المستهلك، لا بُد لتجار التجزئة في المنطقة أن يكونوا على أتم الاستعداد لتبني أساليب جديدة ترتقي بتجارب العملاء، وتحسن الكفاءة التشغيلية إن كانوا يطمحون إلى النجاح والازدهار. وهي خطوة غاية في الأهمية لا سيما أننا نشهد ظهور جمهور أصغر سناً يمتلك خبرة كبيرة بالتكنولوجيا وقدرة شرائية أكبر.
كشخص ولد في كنف عائلة تمتلك شركة بيع بالتجزئة، لطالما وجدت الشغف والإلهام في قطاع التجزئة في منطقة الخليج العربي، حيث يتمتع بإرث عريق من الابتكار مكّنه من مواكبة التوجهات الرقمية وتطور توقعات العملاء ببراعة في الماضي. ومع ذلك، فإن التغيرات الرقمية المتسارعة التي نشهدها في عام 2024 تمثل فرصةً فريدة لإعادة تشكيل مشهدنا التشغيلي.

دور الذكاء الاصطناعي في تحسين التجارب بالغة التخصيص والكفاءة التشغيلية
تشكل مستجدات عالم الذكاء الاصطناعي عنصراً حاضراً دوماً على طاولة أي حوار، سواء كان مأدبة عشاء أو اجتماع لمجلس إدارة. وتظهر البيانات الأخيرة أن 69% من المديرين التنفيذيين في قطاع التجزئة يتوقعون أن يسهم الذكاء الاصطناعي في تسريع وتيرة الابتكار والتسويق المخصص، بينما يرى 66% منهم أنه سيسهم في تكوين فهم أعمق لتوجهات الأعمال والعملاء.
ولعلّ أحد أبرز الجوانب التي يسعى تجار التجزئة في الخليج إلى التفوق فيها دوماً هو التجربة الشخصية والخدمات المُقدّمة للعملاء. ويمكن لتجار التجزئة الإلكترونية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتقديم توصيات مخصصة وأسعار ديناميكية بناءً على سلوك العملاء وتاريخهم الشرائي.
في الوقت ذاته، يمكن للمساعدين الافتراضيين وروبوتات الدردشة، المعززة بالذكاء الاصطناعي التوليدي، إعادة تعريف التفاعل اللغوي الطبيعي، وتوسيع نطاق وصول الشركات عبر مختلف المناطق من خلال التواصل متعدد اللغات. ويمكن لتطبيقات أجهزة الاستشعار والأجهزة المحمولة داخل المتاجر، المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ربط العملاء بالعروض ذات الصلة، بينما يمكن للخوارزميات التنبئية تحسين تخطيطات المتاجر لزيادة فرص البيع المتبادل.
وبالإضافة إلى التخصيص، يعمل الذكاء الاصطناعي، عند اقترانه بالبيانات، كعامل مهم لنجاح العمليات اللوجستية. فمن خلال استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات، يمكننا التنبؤ بدقة برغبات المستهلكين وخدمتهم على نحو أفضل من خلال توقع احتياجاتهم. علاوةً على ذلك، يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي تحليل البيانات التاريخية وتوجهات السوق والعوامل الخارجية لتوقع الطلب بدقة، ولذلك تحسين مستويات المخزون عبر تقليل أخطار نفاد المخزون أو تراكمه.
علاوةً على ذلك، يمكن للخوارزميات المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تسهم في تحسين طرق التسليم، مع مراعاة ظروف حركة المرور وأحوال الطقس وأولويات الطلب. وهذا يقلّل من تكاليف النقل، ويحسّن التسليم في الوقت المحدد، ويعزز الكفاءة اللوجستية عموماً. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لتقنيات البلوك تشين تحسين شفافية ودقة سلاسل التوريد، من خلال تسجيل جميع المعاملات ونقل المنتجات من المَصْدر إلى المستهلك.
ورغم أهمية تبني الذكاء الاصطناعي، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب سلامة العملاء. فاعتماد هذه التقنية على البيانات الشاملة قد يجعل تجار التجزئة أكثر عرضةً للهجمات الإلكترونية والانتهاكات والتحديات القانونية. ولذلك، ينبغي لتجار التجزئة إعطاء الأولوية لحماية البيانات والتشفير والامتثال التنظيمي لحماية عملياتهم التشغيلية وعملائهم.
بروز تجارب تسوق جديدة
شهدنا خلال السنوات الخمس الماضية ازدهاراً في قطاع التجارة الإلكترونية، مما أثّر على المستهلكين وتجار التجزئة على حدٍ سواء. وينبع هذا التأثير من الراحة التي يقدمها هذا النوع من التجارة وتكاملها بسلاسة مع تجارة التجزئة القوية أساساً في المنطقة، مما أثمر عن نموذج رقمي مادي فريد من نوعه.
ونتوقع أن نشهد إقبال المزيد من العملاء على استخدام خدمة “انقر، وتسلّم” خلال عام 2024، حيث يطلب العملاء المنتجات عبر الإنترنت، ويتسلّمونها من المتاجر القريبة. وتعد خدمة “انقر، وتسلّم” فرصةً أخرى للتخصيص كونها تتيح للعملاء تجربة توصيات الموظفين داخل المتجر. إذ يتيح التعرّف على العميل من خلال طلبه عبر خدمة “انقر، وتسلّم” فرصاً أكبر لتقديم توصيات مخصصة، حيث يكون موظفو المتجر على دراية جيدة بالعميل واطلاع تام على كامل سجل طلباته.
واستناداً إلى ملاحظاتنا حول التوجهات التي ظهرت بعد جائحة كوفيد-19، لمسنا تنامي دور التجارة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتسوق المباشر، وهو ما تجلى إلى حد بعيد في الأسواق الشرقية. ويمكننا أن نتوقع بثقة أن هذه المنتجات يمكن، بل ينبغي، تقديمها للمستهلكين في منطقة الخليج، ولا سيما مع تطور منصات التواصل الاجتماعي إلى منظومات تسوق شاملة. ويتعين على تجار التجزئة الاستفادة من هذه التوجهات، مع مراعاة القدرة الشرائية وتفضيلات الجيل الرقمي الأصلي.
ومع تنامي اعتماد الذكاء الاصطناعي، هناك تركيز متجدد على تحسين تقنيات الثورة الصناعية الرابعة الأخرى، مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضي. ويمكن لتجار التجزئة الاستفادة من المعلومات البصرية الغنية التي تقدمها تقنية الواقع المعزز/الواقع الافتراضي بطريقة ثلاثية الأبعاد، لمواصلة إثراء تجارب العملاء، وذلك بما يتماشى مع توجهات السوق، ويعزز مشاركة العملاء. إذ تتيح هذه التقنيات الغامرة تجربة الأزياء والأحذية والإكسسوارات ومواد التجميل على نحو افتراضي، الأمر الذي يحد من الأعباء المرتبطة بإرجاع المنتج.
تأثير المتسوقين الشباب على مشهد البيع بالتجزئة.
تتمثل إحدى أبرز التحولات التي لاحظناها، لا سيما من خلال حضورنا في 12 سوقاً عالمياً، في تنامي القوة الشرائية للمستهلكين الشباب، التي تضيف ميزةً جديدة إلى ديناميكيات البيع بالتجزئة. فمع سيطرة الجيل “زد” على السوق مدعوماً بقدرة إنفاق كبيرة، تصبح التجارب الرقمية الأصلية ضرورةً ملحة لاستمرار ونجاح قطاع التجزئة.
وتشير تقديرات أبحاث “سناب تشات” إلى أن الجيل “زد” يمتلك قدرة شرائية تزيد عن 450 مليار دولار أمريكي – بمعدل متوسط يبلغ 8,894 دولاراً لكل مستهلك. ومع ذلك، فإن تبني هذا الجيل لنهج قائم على القيمة ومقارنات الأسعار إلكترونياً يتحدى استراتيجيات التسعير التقليدية، مما يستلزم إيجاد طرق مبتكرة لجذب انتباههم.
بالإضافة إلى ذلك، نشهد تغييراً سلوكياً مع امتلاك هذا الجيل لوعي اجتماعي أفضل من الأجيال الأكبر سناً. ولذلك، يتوقف نجاح تجّار التجزئة على مواكبة القضايا الاجتماعية، بما في ذلك تبني الاستدامة في سلسلة التوريد، ومطالبة الموردين بإظهار التزام تجاه الاستدامة.
يمكن لتجار التجزئة الذين تكيفوا مع الجيل “زد” الوصول بسهولة إلى الجيل ألف، باعتبار أن الجيلين يتشاركان كثير من الخصائص. ويعد جيل الألفية (مواليد ما بعد عام 2010) أكثر انغماساً في مجال التكنولوجيا الرقمية، كونهم نموا خلال فترة كانت فيها الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وغيرها من الأجهزة الرقمية تشكل بالفعل جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية.
ينبغي لتجار التجزئة الراغبين في نيل رضا هذه الشريحة الديموغرافية إعطاء الأولوية لمنصات التسوق الإلكترونية التي تكون بديهية، وتتميز بسهولة الاستخدام والأمان. ويمكن لمزايا مثل الشراء بنقرة واحدة، وتوصيات المنتجات المخصصة، والكتالوجات التفاعلية الارتقاء بتجربة التسوق عبر الإنترنت.
وبينما نبدأ عاماً جديداً، نثق بأن مشهد البيع بالتجزئة في عام 2024 سيتميز بالتحول الرقمي وتجارب العملاء السلسة. ولتبني هذه التقنيات الثورية كلّياً، يتعين علينا كتجار تجزئة تحديد أهدافنا على نحو استراتيجي، واختبار حالات الاستخدام، وتحديد الأدوات والبائعين المناسبين، وتنفيذ التقنيات المختارة بدقة. وبدورهم، يتبنى تجار التجزئة في منطقة الخليج هذه الفرص على نحو استراتيجي، مما يجعلهم مستعدين جيداً للازدهار في كنف هذه السوق المتطورة.

