منذ انطلاقه في عام 2022، استطاع مؤتمر ليب (LEAP) أن يتحول من مجرد فعالية تقنية ناشئة إلى واحدة من أبرز المنصات العالمية التي تجمع بين قادة الصناعة والمبتكرين والمستثمرين. اليوم، وبعد أربع سنوات من النمو المتسارع، لم يعد الحدث مجرد ساحة لاستعراض الابتكارات، بل أصبح مؤشراً واضحاً على تحول السعودية إلى لاعب رئيسي في المشهد التقني العالمي. ومع ذلك، يبقى السؤال قائماً: هل تسير المملكة على الطريق الصحيح نحو بناء اقتصاد رقمي مستدام، أم أن التحديات لا تزال تعترض مسيرتها الطموحة؟
ما الذي يجعل ليب 2025 مختلفاً؟
يتميز ليب 2025 ليس فقط بحجمه، بل أيضاً بنوعية المشاركين فيه والاتفاقيات التي تم الإعلان عنها خلاله. شهد هذا العام حضور أكثر من 170,000 زائر، ومشاركة 1,800 شركة تقنية عالمية، إلى جانب 680 شركة ناشئة تبحث عن فرص جديدة للنمو في سوق يتوسع بسرعة. الأسماء الكبيرة التي تصدرت الحدث شملت شركات مثل جوجل (Google)، تينسنت كلاود (Tencent Cloud)، سيلزفورس (Salesforce)، وداتا بريكس (Databricks)، إلى جانب شخصيات بارزة من شركات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة.
لكن الأهم من ذلك هو حجم الاستثمارات التي تم الإعلان عنها، والتي تجاوزت 24 مليار دولار، في خطوة تعكس مدى التزام المملكة بتطوير بنيتها التحتية الرقمية وتعزيز حضورها في الاقتصاد التقني.

هذه الاستثمارات شملت إطلاق مركز ذكاء اصطناعي من قبل جوجل في الرياض، شراكة بقيمة 1.5 مليار دولار بين أرامكو ديجيتال (Aramco Digital) وجروك (Groq)، واستثمارات ضخمة في البنية التحتية السحابية، حيث أعلنت تينسنت كلاود عن تأسيس أول منطقة سحابية تعتمد على الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط، وحتى شراكة على مستوى التصنيع بين لينوفو وآلات بقيمة 2 مليار دولار لبناء مصنع في الرياض.
بين الاستثمار وبناء القدرات
لا شك أن هذه الاستثمارات تعكس إرادة واضحة من السعودية لتكون في صدارة التحول الرقمي، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدى تساهم هذه الخطوات في بناء قدرات محلية مستدامة، بدلاً من الاعتماد على الشركات العالمية لتطوير المشهد التقني؟
إذا نظرنا إلى التجارب العالمية، نجد أن الدول التي نجحت في ترسيخ مكانتها كقوى تقنية مثل الصين وكوريا الجنوبية لم تكتفِ بجذب الاستثمارات الخارجية، بل قامت أيضاً بتطوير كوادر محلية قادرة على دفع عجلة الابتكار من الداخل. في السعودية، هناك جهود واضحة لتسريع هذا التوجه من خلال برامج تعليمية متخصصة، مثل تعزيز مجالات علوم البيانات، الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني في الجامعات، إلى جانب دعم الشركات الناشئة في هذه المجالات.
ولكن في المقابل، لا تزال السعودية تعتمد بشكل كبير على الخبرات الأجنبية في بعض المجالات التقنية المتقدمة، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى أن التحول الرقمي يتطلب وقتاً وجهداً مستمرين. ومع ذلك، تظل هناك حاجة ماسة لزيادة الاستثمار في تنمية المواهب المحلية، حتى يتمكن هذا الزخم الاستثماري من التحول إلى نظام بيئي متكامل ومستدام.

السعودية… المنافس الصاعد والصديق المتوازن للجميع
في ظل هذه الطفرة الرقمية، باتت السعودية ساحة تنافس مفتوحة بين الولايات المتحدة والصين، حيث تسعى كل من القوتين العظميين إلى تأمين موطئ قدم في واحدة من أسرع أسواق التكنولوجيا نمواً. الشركات الأميركية، مثل جوجل، مايكروسوفت، و آي بي إم، تركز بشكل كبير على الاستثمارات في الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، مستفيدة من سمعتها القوية وريادتها في الأبحاث والتطوير.
على الجانب الآخر، الصين، ممثلةً بشركات مثل تينسنت، هواوي، وعلي بابا كلاود، تسعى إلى تعزيز وجودها من خلال شراكات استراتيجية، مستغلة قدرتها على تقديم حلول أكثر تنافسية من حيث التكلفة، فضلاً عن كونها أقل تقييداً من الناحية السياسية مقارنةً بالشركات الأميركية.
هذا التنافس ليس مجرد سباق تجاري، بل يمتد إلى اعتبارات جيوسياسية. فمع تزايد الضغوط الأميركية على التكنولوجيا الصينية، خاصةً في قطاعات مثل أشباه الموصلات (Semiconductors) والذكاء الاصطناعي، تسعى الصين إلى توسيع نفوذها في الأسواق التي لا تزال مفتوحة أمامها، والسعودية واحدة من أهم هذه الأسواق. في المقابل، تريد واشنطن ضمان عدم تحول الرياض إلى حليف تكنولوجي لبكين، ما يفسر حرص الشركات الأميركية على تعزيز وجودها في المشاريع الضخمة داخل المملكة.
ما يميز موقف السعودية في هذا التنافس هو استراتيجيتها المتوازنة. فرغم الشراكات المتزايدة مع الصين، لا تزال المملكة حريصة على الحفاظ على علاقاتها القوية مع الشركات الأميركية، وهو ما يجعلها في وضع مفاوض قوي، قادر على الاستفادة من أفضل العروض التي تقدمها كلتا القوتين. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر أمام السعودية سيكون في كيفية تحقيق الاستقلالية التقنية دون الاعتماد المفرط على أي من الطرفين، وهو ما يتطلب استثمارات طويلة الأمد في البحث والتطوير، وبناء منظومة تقنية متكاملة داخل المملكة.
الشركات الناشئة: مستقبل الابتكار السعودي؟
جانب مهم آخر في ليب 2025 كان التركيز الكبير على دعم الشركات الناشئة، حيث شهد الحدث توقيع اتفاقيات بقيمة 450 مليون دولار لصالح الشركات الصاعدة في مجالات الذكاء الاصطناعي، التكنولوجيا المالية، والتكنولوجيا العميقة. شركات سعودية مثل بركز (BRKZ)، التي حصلت على تمويل قدره 17 مليون دولار لتطوير حلول تقنية لقطاع البناء، وتابي (Tabby) التي جمعت 160 مليون دولار ضمن جولة تمويلية جديدة رفعت قيمتها السوقية إلى 3.3 مليار دولار، تعكس كيف أصبحت المملكة بيئة جاذبة لريادة الأعمال.
رغم ذلك، لا يزال النظام البيئي للشركات الناشئة في السعودية بحاجة إلى مزيد من النضج والتوسع. فبينما تلعب الاستثمارات الحكومية دوراً مهماً في دعم الابتكار، فإن تحقيق الاستدامة يتطلب زيادة دور القطاع الخاص والمستثمرين الأفراد، بحيث يكون التمويل قائماً على عوامل اقتصادية سليمة وليس فقط على دعم حكومي.

هل تتجه السعودية نحو الهيمنة التقنية؟
المملكة اليوم ليست فقط مستهلكاً للتكنولوجيا، بل بدأت في وضع نفسها كمحرك رئيسي لصناعات المستقبل. توسعها في مجال البنية التحتية الرقمية، واستثماراتها الضخمة في تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، كلها مؤشرات على أن السعودية تريد أن تصبح مركزاً للابتكار الرقمي في المنطقة، وربما على مستوى العالم.
لكن في الوقت نفسه، النجاح في تحقيق هذا الهدف يتطلب توازناً بين الاستثمار في البنية التحتية، وتنمية العقول المحلية، وتعزيز الاستدامة الاقتصادية. بناء مركز ذكاء اصطناعي جديد أو استضافة شركات تقنية عملاقة مثل جوجل وتينسنت هو خطوة مهمة، ولكن السؤال الأكثر أهمية هو: كيف يمكن للمملكة أن تجعل هذه الاستثمارات رافعة لنقل المعرفة وبناء قدرات محلية طويلة الأمد؟
السعودية تمتلك اليوم الفرصة لتكون من بين الدول الرائدة في التكنولوجيا، لكن تحويل هذه الفرصة إلى واقع دائم يتطلب رؤية تمتد لما هو أبعد من الإنفاق والاستثمار، يتطلب بناء نظام بيئي يتيح للابتكار المحلي أن يزدهر، ويعتمد على الكفاءات السعودية في المقام الأول.
ليب 2025 كان حدثاً ضخماً بكل المقاييس، ولكن القصة الحقيقية ستُكتب في السنوات المقبلة، عندما نرى كيف ستُترجم هذه الاستثمارات إلى إنجازات ملموسة على أرض الواقع. السعودية تملك كل المقومات، والنجاح الآن ليس مجرد خيار، بل ضرورة لمواكبة التحولات الرقمية العالمية.
في المشهد العالمي، تُعد مؤتمرات التكنولوجيا الكبرى مثل CES في لاس فيغاس (CES – Consumer Electronics Show)، ومؤتمر وقمة الويب في لشبونة (Web Summit – Lisbon)، والمؤتمر العالمي للهواتف المحمولة في برشلونة (MWC – Mobile World Congress) من أبرز المنصات التي تجمع بين المستثمرين، المبتكرين، والشركات الكبرى. مقارنةً بهذه الفعاليات، استطاع ليب خلال وقت قصير أن يحجز لنفسه مكاناً بين الكبار، من حيث حجم الاستثمارات، نوعية الحضور، والتأثير الفعلي على السوق التقنية.
لكن الاختلاف الرئيسي يكمن في الهوية الاقتصادية لكل فعالية. فبينما تُركز مؤتمرات مثل CES على استعراض المنتجات الاستهلاكية، ويهتم MWC بالاتصالات وتقنيات الجيل الخامس، فإن ليب يحمل بُعداً استراتيجياً فريداً، حيث لا يقتصر فقط على تقديم التكنولوجيا، بل يستخدمها كأداة لقيادة تحول اقتصادي شامل. وهذا ما يميزه عن غيره، حيث أن الكثير من الصفقات المعلنة فيه ليست مجرد شراكات تسويقية، بل تمثل مشاريع حكومية واستثمارات طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل الاقتصاد السعودي نحو نموذج رقمي قائم على المعرفة.

على صعيد الأسواق المنافسة، تسعى دول مثل الإمارات، سنغافورة، والصين إلى ترسيخ مكانتها كمراكز تقنية إقليمية. الإمارات، على سبيل المثال، بنت سمعة قوية في مجالات مثل التكنولوجيا المالية، والأمن السيبراني والشركات الناشئة في الذكاء الاصطناعي، بينما تركز سنغافورة على كونها بوابة آسيوية للاستثمارات التقنية العالمية. الصين، من جهتها، تعتمد على تصنيع التكنولوجيا المتقدمة، وتُعتبر رائدة في تقنيات مثل شبكات الجيل الخامس، الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات.
لكن ما يجعل السعودية مختلفة هو حجم الاستثمار الحكومي المباشر في بناء بنية تحتية رقمية ضخمة، وهو ما لم تفعله دول أخرى بنفس المستوى. في حين أن الإمارات وسنغافورة اعتمدتا على بيئة تنظيمية جاذبة للشركات، تعمل السعودية على خلق سوق تقنية محلية، بحيث لا يكون التحول قائماً فقط على استقطاب الشركات الأجنبية، بل على بناء نظام بيئي مستقل يمكنه الاستمرار على المدى الطويل.