ربما كان تمردها على القيود المجتمعية نابعاً، بشكل ما، من رحيل والدها المبكر. فقدته وهي طفلة في الخامسة أو السادسة، تاركاً فراغاً دفعها هي وأمها إلى رسم طريقهما بأيديهما. أمها، ابنة النيل، كانت قد تخلت عن أحلامها الجامعية من أجل الزواج، لتجد نفسها أرملة في مقتبل العمر، تحمل على كتفيها مسؤولية طفلة صغيرة. لكنها أبت أن تستسلم للحزن.
تستذكر الأميرة بنبرة دافئة: “كانت تردد دائماً: “أنتِ مميزة.” غرست في داخلي إيماناً بأن كل شيء ممكن. حتى أننا التحقنا بالجامعة معاً. علمتني درساً لا يُنسى، أن الأحلام، مهما كبرت، يمكن تحقيقها.”
هذا الإصرار، الذي صقلته أمٌّ مؤمنة بابنتها، حمل لمياء نحو مرحلة النضج المليئة بالفرص. انخرطت في الإعلام والأعمال. كتبت كتاباً. أنجبت ابنتين. راكمت التجارب، منها السهل ومنها المليء بالتحديات، ومن تلك المنسوجة المتشابكة صنعت هويّة جديدة. لم يكن في نيّتها أن تظل ثابتة.
وعندما تتحدث عن خطواتها القادمة، مثل الماراثون الذي تطمح لخوضه بحلول عام 2025 أو 2026، تظهر لديها رغبة مستمرة في التحدي. تقول وهي تبتسم: “لا أعمل جيداً إلا تحت الضغط. ولن أفصح عن أكبر مشاريعي الآن.”
بداية الحكاية: بين عالمين وهوية مزدوجة
إنّه وقت الفجر بالكاد في القاهرة، والهواء بارد يَعِدُ بإمكانات لا حصر لها. تمضي المدينة على إيقاعها الخاص: صوت الأذان ينبعث من مئذنة بعيدة، وأبواق السيارات تعزف جوقة غير متناغمة، فيما يتهادى النيل بهدوء عبر كلّ ذلك. في صباحٍ كهذا، قبل سنوات، كانت فتاة مراهقة تُدعى لمياء، بنظراتٍ فضولية وروحٍ حائرة، تسرع للحاق بمحاضراتها في جامعة مصر الدوليّة. كانت نصف مصرية ونصف سعودية، مزيجاً من عالمين يجرّانها في اتجاهات مختلفة، ولكن يمنحانها إحساساً بانتماء مزدوج. لا تزال تذكر تدافع الناس في الشوارع وذلك المزيج القاهري المميّز من الغبار ونسمات الياسمين.
وبعد عقود، في هدوء قاعة اجتماعات في الرياض، تستعيد صاحبة السمو الملكي الأميرة لمياء بنت ماجد آل سعود ذكريات تلك الأيام في القاهرة بابتسامة دافئة. لقد قطعت شوطاً طويلاً منذ كانت تخطو أولى خطواتها بحقيبةٍ على ظهرها عبر حرمٍ جامعي واسع في مصر. تقول بصوتٍ منخفض مفعم بالحنين: “لماذا مصر؟ لأنني نصف مصرية، فأمي مصرية. عشتُ أكثر من نصف حياتي في مصر.
وعندما تخرّجت، لم يكن هناك قطاع إعلامي مهيّأ للنساء في السعودية. درستُ التسويق والإعلان والعلاقات العامة، وتخصصت فرعيّاً في الصحافة، لذا كانت القاهرة الخيار الأكثر سهولة.”

تنظر حولها وهي تتحدث، كأنّها ترى تلك النسخة الأصغر سنّاً منها، تشقّ لنفسها طريقاً في مدينةٍ تبدو غريبةً لكنها مألوفة. في ذلك الوقت، كانت تعيش بين ثقافتين مختلفتين: القوانين الأكثر صرامة في الحياة السعودية والروح الأكثر مرونةً وعفويةً في مصر. هذا التناقض صاغ نظرتها للمجتمع ودور المرأة وثقل التقاليد. في تلك الفترة، تخيّلت نفسها تعمل في المجلات، تكتب قصصاً تخاطب المشاعر.
كانت تريد أن تصبح صحفية أو ما شابه، أي شيء يسمح لها بإمساك القلم والتعليق على عالم يتغيّر.
تستحضر الأميرة مشهدين متباينين: حياتها في مصر، حيث كانت تمتطي الخيل وتلعب كرة السلة وتتنقل بحرية في أرجاء المدينة، وحياتها في الرياض آنذاك، حيث كانت الحدود أكثر صرامة والحريات أضيق نطاقاً. تحكي عن تلك الأيام دون مرارة، بل بنظرة متفهمة لذاتها الشابة التي كانت تبحث عن متنفس لروحها.
وجدت في الرواية وعاءً تسكب فيه كل ما يختلج في صدرها. لم يكن يسيراً نشر عمل يتناول قضايا شائكة كجرائم الشرف، التي عادةً ما تثير جدلاً عاصفاً في المنطقة. لكن الرواية فتحت الأعين على واقع مسكوت عنه، وأضاءت لها درباً جديداً: أن تكشف عن العقبات التي تواجه النساء، وأن تتجاوز حدود الكلمات إلى الفعل. أرادت أن تكون جزءاً من التغيير.
لكن الكتابة للمجلات لم تكن كافية. في أعماقها، كانت تختزن حكايات أخرى، قصصاً شخصية تتأجج كلما تأملت التباين بين حياتها السابقة في مصر وواقعها الجديد في السعودية. من رحم هذا التوتر، ولدت روايتها “أطفال ودماء” عام 2010، متناولة بجرأة قضايا المرأة وجرائم الشرف والمحرمات الاجتماعية. تميل برأسها وكأنها تبوح بسر دفين: “الرواية أعمق من ظاهرها. جوهرها ينبع من تجربتي، نصف حياة في مصر، ثم انتقلت إلى
الرياض لأجد كل شيء محظوراً. حولتها إلى عمل درامي لأفرغ فيها كل تلك المشاعر.”
لكنها تعترف أحياناً بحنينها لأيام مصر. تضحك: “كنت لاعبة كرة سلة متحمسة. كنت مجنونة حينها.” وتضيف أن تلك الروح المتمردة تتجلى في روايتها “أطفال ودماء”، حيث يلمس القارئ غضبها من القيود المفروضة. ثم تربط بين عالمي الإعلام والأدب: “الإعلام أقوى بالتأكيد، لكن الأدب يكمله. فلا يمكنك إيصال رسالة مؤثرة دون محتوى عميق.”
من شغف الكتابة إلى قيادة الإعلام
وبطريقةٍ ما، لم تتوقف يوماً عن الكتابة. تحوّل هذا الميل إلى الأساس الذي استندت إليه في كلّ ما فعلته لاحقاً، من النشر إلى العمل الخيري، وصولاً إلى قيادة أكبر تكتل إعلامي عربي (مجموعة روتانا). لكن البداية كانت مع مجلّة. تقول: “لطالما حلمتُ بامتلاك مجلة، منذ أن كنت في الثانوية العامة. أحب الكتابة.”
وفي عام 2003، أسست “صدى العرب”، وهي شركة نشر أصدرت ثلاث مطبوعات، من بينها مجلة باسم “مدى”. تلك الحلقة الصغيرة من الموظفين، وأولئك القرّاء الأوائل، لم يتصوّروا أنهم يسهمون في ولادة لحظة تحوّل جوهري لشابةٍ ستصبح إحدى أبرز القيادات النسائية في السعودية.
في عقدها الثاني، تتوهج عيناها الواسعتان بالحماس، وتنبض روحها بشغف إثبات ذاتها في هذه الحياة. وبلمسة من القدر، أو ربما عناية السماء، وجد عدد من مجلتها طريقه إلى الأمير الوليد بن طلال، ذلك الاسم الذي يتردد بهيبة في عالم المال والأعمال السعودي. أعجبه ما قرأ، فطلب لقاءها. تستحضر تلك اللحظة بخفقان قلب: “كان من قراء المجلة،
وكان ذلك أعظم شرف في حياتي. حين التقيته قال لي: “أريدك لمهمة خاصة – إصدار مجلة جديدة”. وهكذا ولدت مجلة روتانا.” وبمرور الوقت، أضافت مجلة ثالثة باسم “كونڤوConvo”، وركزت على الأصوات الشابة. حينها أدركت أن سرد القصص، سواء قصصها أم قصص الآخرين، لم يكن مجرد شغف، بل كان شريان حياة.
العمل الخيري: التحدي الأكبر ورحلة التأثير
يبدو أن الضغط رافقها على الدوام، إلا أن الدور الذي وضعها أمام أكبر اختبار جاء عام 2016، عندما أصبحت الأمينة العامة لمؤسسة الوليد للإنسانية، كيان خيري ضخم ضخّ مليارات الدولارات في مشروعاتٍ إنسانية تغطي 190 دولة، بتمويل شخصي بالكامل من الأمير الوليد بن طلال. تتعامل المؤسسة مع كل شيء بدءاً من الإغاثة في حالات الكوارث وحتى تمكين المرأة وقضايا المناخ، وتعقد شراكات مع الصليب الأحمر ومتحف اللوفر ومبادرة بيل غيتس للطاقة النظيفة.
فريق عملها صغير، معظمه من النساء، وكأن في ذلك رسالة صامتة. ترفع الأميرة لمياء حاجبها وتقول: “نحن 10 نساء فقط، نقود أكثر من 70 مشروعاً. قد يبدو هذا غير معهود، لكنه نجح معنا لأننا نتشارك الرؤية نفسها. نحن نؤمن بقضيتنا.”

و”القضية” هنا، في مفهومها الواسع، هي دراسة احتياجات كل مجتمع وصياغة حلول خيرية تواكب تلك الاحتياجات، رؤية ريادية في عمل الخير. تضيف موضحة: “تمكين المرأة في الهند ليس مثل تمكينها في مصر.
لذا علينا دائماً البحث والتخطيط. هذا عملي: أن أقرّر وجهة التمويل، وطبيعة كل شراكة، وكيفية قياس مؤشرات الأداء. الأمر يشكل عبئاً على ضميري. إذا كانت لديك مسؤولية إدارة أموال خيرية، فأنت تريد أن تتأكد من أنها تحدث فرقاً حقيقيًّا في حياة الناس.”
تُربّت الأميرة على الطاولة برقة وهي تسترجع مشروعها للتوعية القانونية الذي أطلقته عام 2014. حين طرحت فكرة تأهيل محاميات، قوبلت بنظرات استغراب. تستذكر تلك اللحظات: “كان السؤال المتكرر: ‹لماذا تعلّمين النساء القانون؟›” تعثرت تصاريح الورش التدريبية، وواجهتنا عقبات إدارية. “في ذلك الحين، لم يكن وجود المحاميات أمراً مألوفاً.” لكن مع الأيام، تلاشت العوائق. تخرجت أكثر من 700 محامية، وعالجن ما يزيد عن 3500 قضية دون مقابل، بل إن بعضهن انخرطن في أعمال خيرية أخرى. تقول: “كان طريقاً وعراً، لكن حين لمس الناس أثرنا الحقيقي في حياة النساء، في تعريفهن بحقوقهن، تيسرت الأمور كثيراً.”
وحين تُسأل عن أكثر مشاريعها الإنسانية فخراً، تتردد كمن يُطلب منه المفاضلة بين أبنائه. غير أن عيناها تتوهجان حين تتحدث عن مشروع “أتلاي Atlai” المعتمد على الذكاء الاصطناعي. هذه المبادرة، التي تراقب انحسار الغابات وتنبه الحكومات والنشطاء، تسخر قوة البيانات الضخمة لحماية كوكبنا.
تستذكر مبادرة الأمير محمد بن سلمان لزراعة 10 مليارات شجرة في السعودية بحلول 2030، وكيف تخطو المملكة بأكملها نحو مستقبل مستدام. تقول مبتسمة: “أنشأنا أتلاي، الذي يمكن اعتباره أول مراسل يعمل بالذكاء الاصطناعي. الاسم يدمج بين “أطلس” و”الذكاء الاصطناعي”. أصدرنا 50 ألف تقرير، واستقطبنا نصف مليون زائر. والآن، مع أتلاي 2.0، نوسع آفاقنا لنشمل قضايا بيئية أشمل، من جودة الهواء إلى حركة الرياح وتدهور الأراضي.”
ومع أنها تتحدث عن الذكاء الاصطناعي بحماس، فإنّ في حديثها مسحة قلق. تقول وهي تهز رأسها برفق: “إنه أمرٌ مخيف. سيغيّر وجه الإنسانية، وليس الإعلام فحسب.” ثم تبتسم بابتسامة تعكس الإقرار بتيارٍ لا يمكن إيقافه: “لكن لا يمكنك أن ترفض ركوب قطار التقدم. دورنا هو أن نعرف كيف نستخدمه لصالح البشرية.”
في الرياض، تتأمل هويتها المتعددة الأبعاد. فهي من آل سعود، والدها الأمير ماجد بن سعود، ما منحها مكانة في العائلة المالكة. لكن نشأتها وجذورها المصرية من جهة الأم وهبتها مسافة من البروتوكولات التي كان يمكن أن تقيد خطواتها. تعلمت التنقل بين العوالم المختلفة، مهارة باتت جوهرية في عملها الإنساني اليوم. تقول: “نعمل جنباً إلى جنب مع الحكومة في كل مشاريعنا داخل السعودية، حرصاً على خدمة المجتمع بالشكل الأمثل، وضمان استمرارية هذه الخدمات حتى بعد انتهاء المشروع.”
تعود الأميرة للحديث عن المشاريع الإنسانية العابرة للحدود. فمؤسسة الوليد للإنسانية تمد نشاطها إلى 190 دولة، من البيرو إلى أوغندا، مركزة على تمكين المرأة والشباب وتعزيز التفاهم الثقافي والإغاثة في الكوارث. تقول: “نعمل في كل المجالات: من حملات التطعيم إلى المبادرات البيئية وبرامج التدريب المهني… أنظر إلى من وراء الباب خلفك، يمثلن 40% من فريقنا الكامل.”
تنتقل للحديث عن تعاونهم مع متحف اللوفر في باريس، حيث ساهمت مؤسستها في إنشاء جناح الفن الإسلامي المعاصر. تشرح: “أراد الأمير الوليد أن يُظهر أن الإسلام ليس مجرد تراث قديم أو محافظ. أراد صرحاً حديثاً في أعرق متاحف العالم. جمعنا تحفاً من السعودية وسوريا والعراق والخليج والأندلس، من كل مكان، عليك رؤيته، إنه مبهر حقاً.”
يتجلى هذا التكامل في منهجها الخيري، مزيج من الحلول العملية والقصص الواقعية والبيانات الملموسة. توضح: “قد يقدم مكتب الأمير مساعدة مالية مباشرة لمن يواجه مشكلة محددة، أما نحن في “الوليد للإنسانية” فنتبنى نهجاً مختلفاً: مشاريع تأهيل متكاملة تمكن الأفراد من الاعتماد على أنفسهم في النهاية.”
تقف الأميرة لبرهة، متجهةً نحو النافذة التي تكشف امتداد أفق الرياض المتغير باستمرار. تتصاعد الأبراج في الأفق، معظمها جديد تماماً، في إشارة إلى التحديث السريع للبلاد. في الأسفل دوامة من غبار البناء والرافعات وجسور الحديد فوق رمال الصحراء. تعترف بأنه قد يبدو متناقضاً أن نُشيّد كل هذا وندّعي الدفاع عن البيئة. لكنها ترى أنك لا تستطيع إيقاف عجلة النمو؛ بل عليك فقط أن توجهها لتقليل الضرر وتعظيم الفائدة. تقول: “نعم، البناء يلوّث، لكن لدينا مبادرة السعودية الخضراء. نبني، صحيح، لكننا أيضاً نطلق مشاريع تشجير هائلة. قد لا يكون كل شيء مثالياً، لكننا نبذل الجهد.”
ذلك التفاؤل الواقعي يميز أسلوب قيادتها. حتى في العمل الخيري، ليست ساذجة ولا متشائمة. تضع مؤشرات أداء وتطالب بنتائج واضحة. تقول: “أحمل معي عادةً جدول إكسل لكل مشروع: ندوّن أهدافنا، وعدد الأشخاص الذين سنصل إليهم، والمدة الزمنية. هكذا نتابع. لا أستسيغ إهدار الموارد في العمل الخيري.”
وإذا لم يحقق مشروع ما أهدافه، تعيد تقييمه. تضيف: “يشترط الأمير الوليد أن يضم كل مشروع داخل السعودية شريكاً حكومياً على الأقل، وشريكاً إضافياً. كي تظل المشاريع مستدامة ضمن المجتمع بعد مغادرتنا.”

تعترف الأميرة بأن أكبر تحدٍ في مسيرتها الخيرية هو اختيار من يحصل على التمويل. تقول بابتسامة يختلط فيها الشعور بالمسؤولية: “تخيل أن الله عهد إليك بمهمة: أنت مسؤول عن العمل الخيري في كل هذه الدول، ولديك ميزانية محدودة، سواء كانت 5 ملايين أو 50 مليوناً أو 100 مليون دولار. أمامي 10 مشاريع مختلفة وعليّ الانتقاء بينها. إنه عبء كبير على ضميري.”
إعلام المستقبل: كيف تعيد لمياء بنت ماجد رسم المشهد الرقمي؟
وهنا تتكشّف ملامح الأميرة بشكل أوضح: تقدّميّة، ولكنها متجذّرة في التقاليد، لا تخشى انتقاد الظلم وفي الوقت ذاته واعية بدورها في منطقة تعوّدت الحذر عبر التاريخ. نظرتها تمتدّ إلى ما هو أبعد من العمل الخيري. ففي يوليو 2024، تولّت منصباً جديداً وضخماً: الرئيس التنفيذي لمجموعة روتانا الإعلامية. على مدى عقود، هيمنت روتانا على عالم الترفيه العربي بمكتبة تضم 2100 فيلم وأضخم مكتبة موسيقية في المنطقة. مهمة الربط بين التلفزيون التقليدي والبث الرقمي في عصر نتفليكس وشاهد وOSN ويوتيوب ليست سهلة، خاصة حين تُضاف إلى مسؤولياتها الخيرية. لكنها تبدو هادئة، بل متحمسة للتحدي.
تقول: “إنه التحول الثقافي نفسه الذي تحدثنا عنه. روتانا تتجاوز كونها مجرد قناة، نمتلك أضخم أرشيف سينمائي في عالمنا العربي، وأكبر مكتبة موسيقية تضم كنوز الخليج ولبنان ومصر. والذكاء الاصطناعي ركن أساسي في رؤيتنا المستقبلية. فلماذا نتحمل أعباء التشغيل وحدنا، في حين يمكننا منح تراخيص للمنصات المختلفة واستثمار عوائدها في مشاريع جديدة؟” تشير إلى اتفاقيات مع سبوتيفاي وغيرها من منصّات البثّ الرقمي. تقول: “شهدت روتانا تحولاً جذرياً في 2024، وبحلول 2025 ستكون قد تغيرت تماماً.”
لا تطيق الأميرة الجمود، حتى في حياتها الشخصية. إذا وجدت مجالاً للاندماج في تجربة جديدة، تفعل ذلك فوراً. على سبيل المثال، أدركت في إمبراطورية روتانا منذ سنوات أن أنماط المشاهدة تتغير. لا يزال الناس يحبون التلفزيون التقليدي للفعاليات الكبرى والمسلسلات الرمضانية والأفلام الكلاسيكية، لكن الجيل الجديد يريد المشاهدة حسب الطلب. تقول: “نمنح تراخيص كثيرة لنتفليكس وOSN وشاهد، ولشركات الاتصالات. نملك المحتوى ونبيعه ونواكب العصر.”
ينتابك شعور بأنها، رغم كل إنجازاتها، لا تزال ترى نفسها مشروعاً مستمراً. قد تطلّ عليك أحياناً مرتدية عباءة أنيقة تمثّل هويّتها كأميرة من آل سعود، وفي يوم آخر تظهر بزيٍّ عملي لإتمام صفقة ترخيص رقمي مع نتفليكس. أحياناً تتقاطع العالَمان. تقول وهي تبتسم: “مررنا بمرحلة كنّا نسافر فيها إلى الغرب بحثاً عن الترفيه أو العمل. والآن نبني هذه المنظومة الترفيهية هنا. نحكي قصصنا بأنفسنا. نرخص محتوانا. نقرر كيف نعرّف العالم بنا.”
تتحدث عن تحول السعودية بدهشة لا تخبو. تصف سنوات ما قبل 2015 كفترة شعرت فيها كانها مقيّدة، مجبرة على ارتداء غطاء الوجه دون خيار. تستذكر:”حين عدت إلى الرياض من مصر، واجهت عالماً من الممنوعات. لا خروج بلا محرم، ولا أماكن للذهاب إليها. كان هذا غريباً على ما اعتدته.”
“كنا نسافر إلى البحرين لمجرد مشاهدة فيلم!” تضحك وتردف: “أما اليوم، فأستطيع أن آخذ ابنتي لتناول العشاء ومشاهدة فيلم في الرياض، كل ذلك في ليلة واحدة.” يشع الفخر من نبرة صوتها، لكنها تحرص على الإشادة بالرائدات اللواتي مهدن الدرب قبلها. “أنظر إلى ريما بنت بندر، وسارة السحيمي، ورانيا نشار، ومشاعل الشميمري وغيرهن… نحن لسنا في بداية الطريق!” تقولها باسمة، ثم تضيف: “كنا مستعدات لهذه المرحلة. أمهاتنا هيأننا لها.”
“لم يعد لدينا عذر نحن النساء.” تقولها ضاحكة، ثم تضيف: “تحدينا الأكبر الآن هو إثبات جدارتنا بكل هذه الحقوق التي منحتنا إياها الحكومة.”
وأحياناً يدهشها أشد التغييرات بساطة. تشير إلى جيل جديد من الشباب السعودي العائد من الخارج بسبب الفرص المتزايدة في الوطن. “كنا نسافر إلى أمريكا ونمكث هناك سنوات. الآن الجميع يريدون العودة. هذا وحده يلخص كل شيء.”
خارج ذلك، تبدو تحدياتها الشخصية مألوفة: تبحث عن وقت لممارسة الرياضة. تريد أن تشارك في ماراثون خلال سنة أو سنتين. تسعى للتوفيق بين منزلها ودورها كأم لابنتين. تعترف بأن جدولها مزدحم – مؤسسة الوليد للإنسانية صباحاً، وروتانا مساءً، وأحياناً تتداخل المهمتان في اجتماعات متتالية عبر الإنترنت. تقول ضاحكة: “إعلام، عمل خيري، بيت، بناتي، ساعة أو اثنتين للقراءة أو لنتفليكس. هذا كل شيء.”
باختصار، يمكن النظر إلى قصة حياتها بوصفها حكاية عن هوية السعودية الجديدة: متأصلة الجذور لكنها لا تخشى القفز نحو المستقبل. كانت يوماً تلك المراهقة في القاهرة، متحفّزة وشغوفة. صارت ناشرة وصحفية وروائية، وناشطة في العمل الخيري. واليوم تشغل قمة الهرم في أكبر مجموعة إعلامية بالمنطقة، وفي الوقت ذاته ترسم استراتيجية خيرية عالمية تشمل 190 دولة.
ومع أنّ التحولات في السعودية، وفي حياتها، لم تنتهِ بعد، قد يكون الجو حاراً اليوم، والأفق زاخراً بالرافعات والطموحات، لكن في عينيها، كل ذلك ما هو إلا بداية أخرى. فالطرق باتت مفتوحة على مصراعيها، ويبدو للمرة الأولى أنّ الجميع، وخاصة النساء، قادرون على المضي قدماً بقوتهم الذاتية.
تتركك مع هذه الصورة الأخيرة: فكرة الإمكانات.
ترفرف في هدوء الغرفة التي بدأت فيها الحكاية، في ذكرى القاهرة عند الفجر، في الحديث الذي يتراقص بين التقاليد والحداثة. وفي نبرة الأميرة لمياء بنت ماجد آل سعود، التي كانت تكتب يوماً روايات عن الحريات الممنوعة، وأضحت اليوم تشغل مقعداً في قاعات الاجتماعات التي تصوغ مستقبل وطنها. فإذا كانت الحياة قصة، فهي مشغولة حالياً بكتابة فصلها التالي، بكل ثقةٍ وبقلمٍ لا يمكن حصره في حكايةٍ واحدة.