يشكك دارون أسيموغلو الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 2024، و هو أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بجوانب أساسية في الذكاء الاصطناعي وبمزاعم عن التأثير الاقتصادي الفعلي للذكاء الاصطناعي سواء كان ذلك التأثير على الناتج الاقتصادي أو أرباح الشركات وعوائد الاستثمار بالذكاء الاصطناعي. ولدى السؤال عن اصراره على خلاصة دراسته حول الذكاء الاصطناعي التي نشرها في أبريل 2024 وأثارت الكثير من الجدل وكانت بعنوان الصورة الاقتصادية الكبيرة Macroeconomics للذكاء الاصطناعي، يلفت في لقاء صحفي مؤخرا، بالقول إن معطياتها صحيحة ولم يبدل رأيخ حول ذلك، ويقر أسيموغلو بقدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي المثيرة للإعجاب لكنه يحذر من أنها لا تنسحب على كل شيء والزعم أنه سيحدث خلخلة في كل القطاعات ويحول العمل فيها، هي أمور تستدعي النظر والدراسة. ويؤكد أن أبحاثه تظهر أن الذكاء الاصطناعي سيحقق أتمتة 5% من المهام فقط، وسيضيف للناتج الإجمالي العالمي 1% خلال العقد الحالي. ويلفت أسيموغلو إن مايقلقه هو كيفية تحقيق الشركات لعوائد من استثماراتها بالذكاء الاصطناعي، ويقلقه ايضاً الضجيج والمبالغة في تسويق الذكاء الاصطناعي قائلاً إن الضجة هي عدو لنجاح الشركات، وأن الوعود والمزاعم حول المكاسب والنتائج الاقتصادية مبالغ فيها وتخالف للمعطيات التاريخية التي يدرسها جيدا.
يُقدّم دارون أسيموغلو، الخبير الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، توقعاتٍ أكثر تواضعًا. كما يُؤكّد أن إمكانات الذكاء الاصطناعي أقل وضوحًا من إمكانات الإنترنت حتى اليوم، وأنّ الحكم البشريّ يفوق الخوارزميات، ويحثّ القادة على الابتكار باستخدام الذكاء الاصطناعي بدلًا من الاكتفاء بخفض التكاليف.
أهمية البشر من الذكاء الاجتماعي
يشير أسيموغلو إلى أهمية العنصر البشري قائلا إن الموارد الأساسية للشركات هي الموارد البشرية لأنها جوهر نجاح التفاعل الاجتماعي والقدرة على اتخاذ القرار أو الحكم الصائب فضلا عن الذكاء الاجتماعي (الذكاء الاجتماعي هو عامل ضروري لفهم العلاقات الاجتماعية والنجاح في إدارتها، فيما يقتصر الذكاء الاصطناعي على تزويد الذكاء المعرفي، ويساعد الذكاء الاجتماعي على فهم مشاعر وأفكار وسلوكيات الآخرين، والاستجابة المناسبة لها- المحرر). ويقر أنه لا يمكن التيقن من خلاصة دراسته لأن التكنولوجيا تتغير بسرعة ولكن بضوء المعطيات المتوفرة حالياً فإن الذكاء الاصطناعي يخضع إلى ذات العوامل الأساسية الصلبة في الدراسة. ويضيف أن الذكاء الاصطناعي لم ينجح حتى اليوم في إنتاج تطبيقات حيوية في عمليات الإنتاج ولا تجني أي منتجات مستندة إليه خدمات ذات قيمة عالية للشركات، ويؤكد بأن الصورة الكاملة لا تزال غائبة فكل المهام التي ينفذها لا تستدعي أي تفاعل اجتماعي ولامستويات عليا من الأحكام والقرارات الحيوية.
قدرات لا يمكن إنكارها
يوافق أسيموغلو أن قدرات الذكاء الاصطناعي مثيرة للإعجاب، وهناك بالطبع بعض المهام التي يمكن الاستغناء جزئيا فيها عن البشر مثل تسريع مهام المحاسبة والتسويق والبرمجة لكن لا يمكن حتى الآن تخيل تولي الذكاء الاصطناعي كل المهام كليا بدون إشراف بشري خلال 5 سنوات. ولذلك لا يمس الذكاء الاصطناعي وظائف عديدة، وفي أحسن الأحوال يمكن للذكاء الاصطناعي أتمتة 20% من ما يسمى اقتصاد المعرفة الذي يشمل بعض الوظائف المكتبية، فيما لا يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في المهام التي تعتمد على التفاعل الاجتماعي وتستدعي مهارات الذكاء الاجتماعي والقدرة على اتخاذ القرار والأحكام الصائبة مثل حالات تستدعي التشخيص النهائي للأمراض المستعصية ويعجز عنها كثيرون فيما تظل حكر قلة من الأطباء، وبما أن الذكاء الاصطناعي يستند لمعطيات تدرب عليها سابقا فلا يمكن الوثوق بما يقدمه إلا في حال ذات الحالات التي تولدت منها المعلومات السابقة وسيفشل في حال وجود عوامل جديدة في المرض المستعصي.
خلاصة دراسة “الاقتصاد الكلي البسيط للذكاء الاصطناعي
تخلص الدراسة إلى أن تقديرات الفوائد الاقتصادية للذكاء الاصطناعي محدودة من منظور أكثر تحفظًا ودقةً مقارنةً بالعديد من التوقعات السائدة. وتُبرز الدراسة أن تأثير الذكاء الاصطناعي على الناتج المحلي الإجمالي من المرجح أن يكون متواضعًا، وحتى هذه التقديرات المتواضعة قد تخضع لمزيد من التعديل أو تُعتبر مبالغًا فيها بسبب عوامل مختلفة.
توقعات متواضعة
يقدم بحث أسيموغلو نظرة أكثر تحفظًا بكثير حول التأثير الاقتصادي للذكاء الاصطناعي. فبينما تتوقع بعض التوقعات زيادات كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي (على سبيل المثال، يتوقع غولدمان ساكس ارتفاعًا قدره 7 تريليونات دولار أمريكي أو 7% على مدى 10 سنوات، ويتوقع معهد ماكينزي العالمي ارتفاعًا قدره 17.1 إلى 25.6 تريليون دولار أمريكي سنويًا)، يُقدر أسيموغلو تأثيرًا “معقول لكنه متواضع” على الناتج المحلي الإجمالي خلال العقد المقبل.
مكاسب الإنتاجية المحددة
تشير الدراسة إلى أنه خلال السنوات العشر القادمة، لن تُنجز سوى حوالي 5% من المهام بشكل مربح بواسطة الذكاء الاصطناعي.
وتُقدر الزيادة الإجمالية في الإنتاجية المدعومة بالذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة خلال العقد القادم بنحو 0.7%. وهذا يُترجم إلى نمو أقصى للناتج المحلي الإجمالي يبلغ حوالي 1.8%، مع توقعات أكثر واقعية تُقارب 1.1%. فيما يتعلق بإنتاجية عوامل الإنتاج الكلية (TFP)، تُشير التقديرات الأولية إلى زيادة لا تتجاوز 0.66% على مدى 10 سنوات.
التحسين بناءً على تعقيد المهام
تُجادل الدراسة أيضًا بأنه حتى هذه التقديرات المتواضعة قد تكون مُبالغًا فيها. تأتي الأدلة المبكرة على فوائد الذكاء الاصطناعي من المهام “سهلة التعلم”. ومع ذلك، نظرًا لتطبيق الذكاء الاصطناعي على المهام “صعبة التعلم” (والتي تنطوي على عوامل أكثر اعتمادًا على السياق ولا تحتوي على مقاييس نتائج موضوعية)، فمن المرجح أن تكون مكاسب الإنتاجية محدودة أكثر. عند أخذ هذا التمييز في الاعتبار، تصبح مكاسب إجمالي الإنتاجية المتوقعة على مدى السنوات العشر القادمة أكثر تواضعًا، وقد تقل عن 0.53%. وهذا يعني تعديلًا تنازليًا للتوقعات عند النظر في كامل نطاق تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
تعزو الدراسة هذه التقديرات المنخفضة إلى عدة عوامل، منها حقيقة أن تكاليف الاستثمار في تنفيذ تقنية الذكاء الاصطناعي قد تتجاوز فوائد العديد من المهام التي تتطلب الذكاء الاصطناعي، مما يجعل التطبيق المربح محدودًا.
عدم التوافق بين الاستثمار الحالي في الذكاء الاصطناعي (المتركز في الشركات الكبيرة وقطاعات محددة) وانتشار المهام التي يمكن تطبيقها عليه في الشركات الصغيرة والمتوسطة.
الحجة القائلة بأن تطوير الذكاء الاصطناعي الحالي غالبًا ما يركز على الأتمتة (استبدال العمال) بدلاً من التحسين (إكمال العمال البشريين لزيادة إنتاجيتهم) وذلك بسبب حوافز في المكاسب الضريبية، فحين تستثمر الشركة بشراء حلول تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي فإن نفقاتها لن تخضع للضريبة في بعض الدول فيما ستخصع أجور الموظفين للضريبة التي ستسددها الشركات.
شروط
يشير أسيموغلو إلى أن فرقًا أكبر في تقديرات الناتج المحلي الإجمالي والإنتاجية لن يحدث إلا في حال حدوث زيادة كبيرة في نسبة المهام المتأثرة بالذكاء الاصطناعي خلال العقد المقبل، وزيادة كبيرة في قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي على تحقيق اكتشافات جديدة تمامًا (مثل مواد جديدة، وأدوية جديدة).
في جوهرها، تقدم الدراسة تقييمًا أكثر رسوخًا وحذرًا للتأثير الاقتصادي الكلي للذكاء الاصطناعي على المدى القريب، مع مراجعة التوقعات الأكثر تفاؤلًا بالنظر إلى تحديات التنفيذ العملي وطبيعة المهام التي يمكن للذكاء الاصطناعي تنفيذها بشكل مربح.
واللافت في دراسة أسيموغلو اعتبارها أنّ تأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد وسوق العمل لا يتحدّد مُسبقًا بالتكنولوجيا نفسها، بل بالخيارات التي يتخذها الباحثون والمطوّرون والشركات وصانعو السياسات بشأن تصميمها وتطبيقها. فالتركيز الحالي على الأتمتة وتسريح الموظفين، وإن بدا فعّالًا، إلا أنّه يُهدّد بخلق مشاكل اجتماعية واقتصادية جسيمة، في حين أنّ التركيز على تعزيز عمل الموظفين بالذكاء الاصطناعي قد يُمهّد الطريق لمستقبل أكثر عدالةً وإنتاجية.